الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                القاعدة الثانية والثلاثون الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة " ولهذا لا يتصرف القاضي مع وجود الولي الخاص وأهليته .

                ولو أذنت للولي الخاص أن يزوجها بغير كفء ففعل . صح ، أو للحاكم . لم يصح في الأصح .

                وللولي الخاص استيفاء القصاص ، والعفو على الدية ، ومجانا ، وليس للإمام العفو مجانا .

                ولو زوج الإمام لغيبة الولي ، وزوجها الولي الغائب بآخر في وقت واحد ، وثبت ذلك بالبينة ، قدم الولي . إن قلنا : إن تزويجه بطريق النيابة عن الغائب . وإن قلنا : إنه بطريق الولاية ، فهل يبطل ؟ كما لو زوج الوليان معا ، أو تقدم ولاية الحاكم لقوة ولايته وعمومها كما لو قال الولي : كنت زوجتها في الغيبة ، فإن نكاح الحاكم يقدم ، كما صرحوا به . تردد فيه صاحب الكفاية ، والأصح : أن تزويجه بالنيابة . بدليل عدم الانتقال إلى الأبعد ، فعلى هذا يقدم نكاح الولي .

                ضابط :

                الولي قد يكون وليا في المال والنكاح ، كالأب ، والجد وقد يكون في النكاح فقط ، كسائر العصبة ، وكالأب فيمن طرأ سفهها ، وقد يكون في المال فقط ، كالوصي .

                [ ص: 155 ] فائدة : قال السبكي : مراتب الولاية أربعة : الأولى : ولاية الأب والجد ، وهي شرعية . بمعنى أن الشارع فوض لهما التصرف في مال الولد لوفور شفقتهما . وذلك وصف ذاتي لهما ، فلو عزلا أنفسهما ، لم ينعزلا بالإجماع ; لأن المقتضي للولاية : الأبوة ، والجدودة ، وهي موجودة مستمرة لا يقدح العزل فيها ، لكن إذا امتنعا من التصرف تصرف القاضي ، وهكذا ولاية النكاح لسائر العصبات .

                الثانية : وهي السفلى . الوكيل ، تصرفه مستفاد من الإذن ، مقيد بامتثال أمر الموكل فلكل منهما العزل . وحقيقته : أنه فسخ عقد الوكالة ، أو قطعه . والوكالة : عقد من العقود قابل للفسخ .

                واختلف الأصحاب فيما إذا كانت بلفظ الإذن ، هل هي عقد ; فيقبل الفسخ ، أو إباحة ، فلا تقبله ؟ لأن الإباحة لا ترتد بالرد ، والمشهور : الأول . وفي الفرق بين الوكالة والإذن غموض .

                الثالثة : الوصية . وهي بين المرتبتين ، فإنها من جهة كونها تفويضا تشبه الوكالة . ومن جهة كون الموصي لا يملك التصرف بعد موته ، وإنما جوزت وصيته للحاجة ، لشفقته على الأولاد ، وعلمه بمن هو أشفق عليهم تشبه الولاية . وأبو حنيفة لاحظ الثاني ، فلم يجوز له عزل نفسه ، والشافعي لاحظ الأول ، فجوز له عزل نفسه على المشهور من مذهبه . ولنا وجه كمذهب أبي حنيفة .

                الرابعة : ناظر الوقف يشبه الوصي من جهة كون ولايته ثابتة بالتفويض ، ويشبه الأب من جهة أنه ليس لغيره تسلط على عزله ، والوصي يتسلط الموصي على عزله في حياته بعد التفويض : بالرجوع عن الوصية . ومن جهة أنه يتصرف في مال الله تعالى ، فالتفويض أصله أن يكون منه . ولكنه أذن فيه للواقف ، فهي ولاية شرعية . ومن جهة أنه إما منوط بصفة ، كالرشد ونحوه ، وهي مستمرة ، كالأبوة . وإما منوط بذاته ، كشرط النظر لزيد ; وهو مستمر ، فلا يفيد العزل . كما لا يفيد في الأب ، بخلاف الوكيل والوصي ، فإنه يقطع ذلك العقد ، أو يرفعه .

                قال : فلذلك أقول : إن الذي شرط له الواقف النظر معينا ، أو موصوفا بصفة . إذا عزل نفسه . لا ينفذ عزله لنفسه ، لكن إن امتنع من النظر ، أقام الحاكم مقامه ، وإن لم نجد ذلك مصرحا به في كلام الأصحاب ، إلا ابن الصلاح .

                قال في فتاويه : لو عزل الناظر نفسه ، فليس للواقف نصب غيره ، فإنه لا نظر له ، بل ينصب الحاكم ناظرا ، وهذا يوهم أنه إذا عزل نفسه انعزل ، ويمكن تأويله .

                [ ص: 156 ] قال : ويوضح ذلك أن شرط النظر من الواقف : إما تمليك ، أو توكيل . فإن كان توكيلا لم يصح أن يكون توكيلا عنه ; لأنه لا نظر له ، فكيف يوكل ؟ ولأنه لو كان وكيلا عنه لجاز له عزله ، وهو لو عزله لم ينفذ . ولا عن الموقوف عليه ، للأمرين ، فلم يبق إلا أنه تمليك ، أو توكيل عن الله تعالى ، أو إثبات حق في الوقف ابتداء ، فإن رقبة الموقوف تنتقل إلى الله تعالى ، ولا بد لها من متصرف ، واعتبر الشارع حكم الواقف في الصرف ، وفي تعيين المتصرف ، وهو الناظر ، فعلم أن استحقاق الناظر النظر بالشرط كاستحقاق الموقوف عليه الغلة ، والموقوف عليه لو أسقط حقه من الغلة ، لم يسقط ، فكذلك إسقاط النظر ، ثم إن جعلناه تمليكا منه ، حسن اشتراط القبول باللفظ ، كسائر التمليكات . وإن جعلناه استخلافا عن الله تعالى لم يشترط .

                قال : ويحتمل أن لا يشترط أيضا على التمليك ; لأنه ليس بعقد مستقل ، بل وصف في الوقف ، كسائر شروطه .

                قال : وهذا هو الأقوى .

                قال : بل أزيد أنه لو رد ، لا يرتد ، بخلاف الوقف على معين ، حيث يرتد بالرد ، لما قلناه : من أن النظر ليس مستقلا ، بل وصف في الوقف تابع له ، كسائر شروطه .

                إلا أنا لا نضره بإلزام النظر . بل إن شاء نظر ، وإن شاء لم ينظر ; فينظر الحاكم .

                قال : ثم هذا كله إذا كان المشروط له النظر معينا . أما إذا كان موصوفا ، فينبغي أن لا يشترط القبول قطعا كالأوقاف العامة ، ثم قال : فإن قيل : النظر حق من الحقوق ، فيتمكن صاحبه من إسقاطه ، فإن كل من ملك شيئا . له أن يخرجه عن ملكه ، عينا كان أو منفعة ، أو دينا ، فكيف لا يتمكن الناظر من إسقاط حقه من النظر ؟

                فالجواب : أن ذاك فيما هو في حكم خصلة واحدة . وحق النظر في كل وقت يتجدد بحسب صفة فيه ، وهو الرشد مثلا إن علقه الواقف بها ، أو بحسب ذاته ، إن شروطه له بعينه ، فلا يصح إسقاطه ، كما لو أسقط الأب أو الجد حق الولاية من مال ولده ، أو التزويج ، ونحوه انتهى كلام السبكي ملخصا من كتابه " تسريح الناظر في انعزال الناظر " .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية