الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإن قيل: إن القرآن لم يدل على العلو والصفات لا بنفي ولا إثبات، كان هذا أيضا باطلا ومعلوم البطلان من وجوه:

أحدها: أن العلم بدلالة النصوص على العلو والصفات أمر ضروري، فالقدح فيه من جنس القدح في ما دل عليه القرآن من خلق السماوات والأرض، ومن نعيم الجنة والنار. ولا ريب أن دلالة القرآن والحديث على ذلك أعظم من دلالته على الميزان والشفاعة والحوض [ ص: 128 ] وفتنة القبر ومساءلة منكر ونكير، وأعظم من دلالته على أن محمدا خاتم النبيين، وأنه أفضل الخلق، وأن الأنبياء أفضل من غيرهم وأن السابقين الأولين من أهل الجنة، وأعظم من دلالته على تنزيه الله عن البخل والكذب والظلم ونحو ذلك من النقائص.

وبالجملة فما من صنف من الأصناف المعلومة بالضرورة من الدين إلا وتطريق التأويل إلى نصوصه من جنس تطريقه إلى نصوص العلو والصفات، أو أبلغ من ذلك أو قريب من ذلك.

الوجه الثاني: أن يقال: جميع الطوائف متفقة على أن ظواهر النصوص مثبتة للعلو والصفات. ولهذا كان المخالفون لذلك يقولون إما بالتأويل المتضمن لصرف ذلك عن ظاهره، وإما بالتفويض مع قولهم: ظاهر ذلك غير مراد، فلو كان ظاهرها دالا على الإثبات لما احتاجوا إلى هذا، ولدفعوا أصل ظهور هذه الدلالة، كما يدفع ظهور الدلالة في غير ذلك مما تقدم التمثيل به وغير ذلك.

الثالث: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن ظهور دلالة هذه النصوص على العلو الصفات أعظم من ظهور ما كان المؤمنون والكافرون يوردونه من السؤالات عما يظنونه مشكلا من القرآن، كما تقدم تمثيلا. وإذا كان كذلك، ولم يسألوا عن ذلك، علم قطعا أنه لم يكن منافيا لما يعلمونه بعقولهم. [ ص: 129 ]

الوجه الرابع: أن يقال: فعلى هذا التقدير يمتنع تعارض العقل والسمع، إذا لم يكن للسمع ظاهر يخالف العقل. وهذا هو كان المقصود بالكلام، وإنما ذكرنا مسألة العلو على طريق التمثيل، لأنهم يذكرون ذلك فيها. فيقال: ليس في ظاهر القرآن ما يخالف الأدلة العقلية وهو المطلوب.

الوجه الخامس: أن الهمم والدواعي متوفرة على طلب العلم بهذه المسائل، وهي من أجل علوم الدين، ومعرفتها إما واجبة أو مؤكدة الاستحباب. وما كان كذلك يمتنع في الشرع والعادة أن الرسول لا يبين أمرها بنفي ولا إثبات.

الوجه السادس: أن العلم بهذه المسائل إما أن يكون من الدين، وإما أن لا يكون. فإن قيل: ليس ذلك من الدين، بحيث لا يكون العلم بها أفضل من الجهل بها، وهذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وكل دين، فإن العلم بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات لا ريب أنه مما يفضل الله به بعض الناس على بعض، أعظم مما يفضلهم بغير ذلك من أنواع العلم. ولا ريب أن ذلك يتضمن من الحمد لله، والثناء عليه، وتعظيمه وتقديسه، وتسبيحه وتكبيره - ما يعلم به أن ذلك مما يحبه الله ورسوله. وسواء قيل: إن ذلك واجب أو مستحب، فمقصود أنه من المحمود الحسن المفضل عند الله ورسوله، فيكون ذلك من الدين.

وقد قال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [سورة المائدة: 3] . [ ص: 130 ]

وقال تعالى: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام [سورة المائدة: 16] .

وقال تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [سورة الإسراء: 9] .

وقال: كنتم خير أمة أخرجت للناس [سورة آل عمران: 110] . وأمثال ذلك من النصوص التي يدل كل منها على أن بيان هذا ومعرفته مما جاء به الرسول، ونزل به هذا الكتاب، وعلمته هذه الأمة، وتضمنه هذا الدين، فلا يمكن أن يقال: إن الرسول والمؤمنين أعرضوا عنه، فلم يكن لهم به علم، ولا لهم فيه كلام لا بنفي ولا إثبات.

التالي السابق


الخدمات العلمية