الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النوع الثالث عشر:

معرفة الشاذ.

روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال: قال الشافعي رضي الله عنه: "ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس".

وحكى الحافظ أبو يعلى الخليلي القزويني نحو هذا عن الشافعي وجماعة من أهل الحجاز. ثم قال: "الذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ بذلك شيخ ثقة كان أو غير ثقة. فما كان عن غير ثقة فمتروك لا يقبل، وما كان عن ثقة يتوقف فيه ولا يحتج به".

وذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ أن الشاذ هو الحديث الذي يتفرد به ثقة من الثقات، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة. وذكر أنه يغاير المعلل من حيث إن المعلل وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه، والشاذ لم يوقف فيه على علته كذلك.

قلت: أما ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه شاذ غير مقبول، وأما ما حكيناه عن غيره فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط، كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" فإنه حديث فرد تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث.

[ ص: 458 ] [ ص: 459 ]

التالي السابق


[ ص: 458 ] [ ص: 459 ] 62 - قوله: (أما ما حكم الشافعي عليه بالشذوذ فلا إشكال في أنه شاذ غير مقبول، وأما ما حكيناه عن غيره فيشكل بما ينفرد به العدل الحافظ الضابط، كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" فإنه حديث فرد تفرد به عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تفرد به عن عمر علقمة بن وقاص، ثم عن علقمة محمد بن إبراهيم، ثم عنه يحيى بن سعيد على ما هو الصحيح عند أهل الحديث) انتهى.

وقد اعترض عليه بأمرين:

أحدهما: أن الخليلي والحاكم إنما ذكرا تفرد الثقة فلا يرد عليهما تفرد الحافظ؛ لما بينهما من الفرقان.

والأمر الثاني: أن حديث النية لم ينفرد عمر به بل رواه أبو سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره الدارقطني وغيره، انتهى ما اعترض به عليه.

والجواب عن الأول: أن الحاكم ذكر تفرد مطلق الثقة والخليلي إنما ذكر [ ص: 460 ] مطلق الراوي، فيرد على إطلاقهما تفرد العدل الحافظ، ولكن الخليلي يجعل تفرد الراوي الثقة شاذا صحيحا، وتفرد الراوي غير الثقة شاذا ضعيفا، والحاكم ذكر تفرد مطلق الثقة، فيدخل فيه تفرد الثقة الحافظ؛ فلذلك استشكله المصنف.

وعن الثاني أنه لم يصح من حديث أبي سعيد ولا غيره سوى عمر.

وقد أشار المصنف إلى أنه قد قيل: إن له غير طريق عمر بقوله: "على ما هو الصحيح عند أهل الحديث" فلم يبق للاعتراض عليه وجه.

ثم إن حديث أبي سعيد الذي ذكره هذا المعترض صرحوا بتغليط ابن أبي داود الذي رواه عن مالك. وممن وهمه في ذلك الدارقطني وغيره.

وإذ قد اعترض عليه في حديث عمر هذا فهلا اعترض عليه في الحديث الذي بعده؟

[ ص: 461 ] فقد ذكر المصنف أنه أوضح في التفرد من حديث عمر، وهو حديث ابن دينار، عن ابن عمر في النهي عن بيع الولاء وعن هبته. قال المصنف: "تفرد به عبد الله بن دينار" انتهى. وقد ذكر الترمذي في جامعه: "أنه رواه يحيى بن سليم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر. وهو وهم، وهم فيه يحيى بن سليم" انتهى.

[ ص: 462 ] ومما يستغرب حكايته في حديث عمر أنى رأيت في المستخرج من أحاديث الناس لعبد الرحمن بن منده أن حديث "الأعمال بالنيات" رواه سبعة عشر من الصحابة، وأنه رواه عن عمر غير علقمة، وعن علقمة غير محمد بن إبراهيم، وعن محمد بن إبراهيم غير يحيى بن سعيد.

وقد بلغني أن الحافظ أبا الحجاج المزي سئل عن كلام ابن منده هذا فأنكره واستبعده. وقد تتبعت كلام ابن منده المذكور فوجدت أكثر الصحابة الذين ذكر حديثهم في الباب إنما لهم أحاديث أخرى في مطلق النية كحديث: "يبعثون على نياتهم".

[ ص: 463 ] وكحديث: "ليس له من غزاته إلا ما نوى" ونحو ذلك. وهكذا يفعل الترمذي في الجامع؛ حيث يقول: "وفي الباب عن فلان وفلان" فإنه لا يريد ذلك الحديث المعين، وإنما يريد أحاديث أخر يصح أن تكتب في ذلك الباب، وإن كان حديثا آخر غير الذي يرويه في أول الباب، وهو عمل صحيح، إلا أن كثيرا من الناس يفهمون من ذلك أن من سمى من الصحابة يروون ذلك الحديث بعينه الذي رواه في أول الباب بعينه، وليس الأمر على ما فهموه، بل قد يكون كذلك وقد يكون حديثا آخر يصح إيراده في ذلك الباب.

ثم إنى تتبعت الأحاديث التي ذكرها ابن منده فلم أجد منها بلفظ حديث عمر [ ص: 464 ] أو قريبا من لفظه بمعناه إلا حديثا لأبي سعيد الخدري، وحديثا لأبي هريرة، وحديثا لأنس بن مالك، وحديثا لعلي بن أبي طالب، وكلها ضعيفة.

ولذلك قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده بعد تخريجه: لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عمر، ولا عن عمر إلا من حديث علقمة، ولا عن علقمة إلا من حديث محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من حديث يحيى بن سعيد. والله أعلم.

وذكره المصنف بعد هذا في النوع الحادي والثلاثين، ونبسط الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى.




الخدمات العلمية