الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
فصل

قال الرازي في تأسيسه: «الخبر الرابع: ما روي عنه عليه السلام أنه قال: «رأيت ربي في أحسن صورة» قال: واعلم أن قوله عليه السلام: «في أحسن صورة» يحتمل أن يكون من صفات الرائي، كما يقال: دخلت على الأمير على أحسن هيئة، أي: وأنا كنت على أحسن هيئة، ويحتمل أن يكون ذلك من صفات المرئي، فإن كان ذلك من صفات الرائي كان قوله «على أحسن صورة» عائدا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه وجهان:

الأول: أن يكون المراد من الصورة نفس الصورة، فيكون المعنى: أن الله تعالى زين خلقه وجمل صورته عندما رأى ربه، وذلك يكون سببا لمزيد من الإكرام في حق الرسول صلى الله عليه وسلم.

الثاني: أن يكون المراد من الصورة الصفة، ويكون المعنى: الإخبار عن حسن حاله عند الله، وأنه أنعم عليه بوجوه عظيمة من الإنعام كما كان؛ وذلك لأن الرائي قد يكون بحيث يتلقاه المرئي بالإكرام والتعظيم، وقد يكون بخلافه، فعرفنا [ ص: 151 ] الرسول صلى الله عليه وسلم أن حالته كانت من القسم الأول.

وأما إن كان عائدا إلى المرئي ففيه وجوه:

الأول: أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المنام في صورة مخصوصة، وذلك جائز؛ لأن الرؤيا من تصرفات الخيال، فلا ينفك ذلك عن صورة متخيلة.

الثاني: أن يكون المراد من الصورة: الصفة، وذلك أنه تعالى لما خصه بمزيد الإكرام والإنعام في الوقت الذي رآه صح أن يقال في العرف المعتاد: إني رأيته على أحسن صورة، كما يقال: وقعت هذه الواقعة على أحسن صورة وأجمل هيئة.

الثالث لعله عليه السلام لما رآه اطلع على نوع من صفات الجلال والعزة والعظمة ما كان مطلعا عليه من قبل.

الخبر الخامس: ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رأيت ربي في أحسن صورة» قال: «فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما بين السماء والأرض، ثم قال: يا محمد، قلت: لبيك وسعديك، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت: يا رب [ ص: 152 ] لا أدرى، فقال: في أداء الكفارات والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء على الكراهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة».

قال: واعلم أن قوله: «رأيت ربي في أحسن صورة» قد تقدم تأويله.

وأما قوله: «وضع يده بين كتفي» ففيه وجهان:

الأول: المراد به المبالغة في الاهتمام بحاله والاعتناء بشأنه، يقال: لفلان يد في هذه الصنعة، أي هو كامل فيها.

الثاني: أن يكون المراد من اليد: النعمة، يقال: لفلان يد بيضاء، ويقال: إن أيادي فلان كثيرة.

وأما قوله: «بين كتفي» فإن صح فالمراد منه: أنه أوصل إلى قلبه من أنواع اللطف والرحمة، وقد روي «بين كنفي» والمراد ما يقال: أنا في كنف فلان، وفي ظل إنعامه.

وأما قوله: «فوجدت بردها» فيحتمل أن المعنى: برد النعمة [ ص: 153 ] وروحها وراحتها، من قولهم: عيش بارد، إذا كان رغدا.

والذي يدل على أن المراد كمال المعارف قوله صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: «فعلمت ما بين المشرق والمغرب» وما ذلك إلا لأن الله تعالى أنار قلبه، وشرح صدره بالمعارف. وفي بعض الروايات: «فوجدت برد أنامله» وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى».

والكلام على ذلك أن يقال:

هذان الحديثان لم يذكر لهما إسنادا، أعني الإسناد الذي يليق بكتابه، وهو أن يعزو الحديث إلى كتاب من كتب الحديث؛ ليعرف أصله، وكأنه نقلها من كتاب «تأويل الأخبار» لأبي بكر بن فورك؛ فإنه هو الذي يعتمده في كثير مما يذكره من أخبار الصفات وتأويلها، وأبو بكر بن فورك جمع في كتابه من تأويلات [ ص: 154 ] بشر المريسي ومن بعده ما يناسب كتابه، لكنه لم يكن من الجهمية المماثلين لبشر بل هو يثبت من الصفات ما لا يثبته بشر، وكان قد سبقه أبو الحسن بن مهدي الطبري إلى كتاب لطيف في التأويل، وطريقته أجود من طريقة أبي بكر بن فورك. وأول من بلغنا أنه توسع في هذه التأويلات هو بشر المريسي، وإن كان قبله وفي زمنه له شركاء في بعضها، وتلقى [ ص: 155 ] ذلك عنهم طائفة من الجهمية المعتزلة وغيرهم، وأما كثير من أئمة الجهمية المعتزلة وغيرهم فيكذب بهذه الأحاديث، كأحاديث الرؤية المتقدمة ونحوها، ويرون أن التصديق بها مع التأويل لها من باب التلاعب وجحد الضرورة، ولا ريب أن هؤلاء في إبطالهم لتأويلها مع ما هي عليه من الألفاظ الصريحة أقرب من المتأولين لها، ولكن هؤلاء في التصديق بها وترك التكذيب بها أقرب من أولئك وهم دائما يتقاسمون البدعة، فيكون هؤلاء من وجه دون هؤلاء وهؤلاء من وجه دون هؤلاء، ولذلك نظائر في مسألة القرآن والرؤية والصفات وغير ذلك، كما نبهنا على بعضه في هذا الكتاب.

وسنتكلم إن شاء الله تعالى على تثبيتهما حيث تكلم الرازي على الأخبار، فإن الرازي هو في الحقيقة يجمع البدعتين فلا يتبع الحق لا في إسنادها ولا في دلائلها، بل [ ص: 156 ] لا يفعل ذلك في دلالة القرآن؛ ولهذا كانت طريقته صدا عن سبيل الله، ومنعا للناس من اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لا يثبت إلا بالنقل وبدلالة الألفاظ، وهو دائما يطعن في الطريقتين، وقد تكلمنا على كلامه في دلالة الألفاظ في غير هذا الموضع أيضا.

التالي السابق


الخدمات العلمية