الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: الطريقة المذكورة في القرآن هي الاستدلال بحدوث الإنسان وغيره من المحدثات المعلوم حدوثها بالمشاهدة، ونحوها على وجود الخالق سبحانه [وتعالى]، فحدوث الإنسان يستدل به على المحدث، لا يحتاج أن يستدل على حدوثه بمقارنة التغير أو الحوادث له، ووجوب تناهي الحوادث.

والفرق بين الاستدلال بحدوثه، والاستدلال على حدوثه بين. والذي في القرآن هو الأول لا الثاني، كما قال تعالى: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون [سورة الطور: 35] ، فنفس حدوث الحيوان والنبات والمعدن والمطر والسحاب ونحو ذلك معلوم بالضرورة، بل مشهود لا يحتاج إلى دليل، وإنما يعلم بالدليل ما لم يعلم بالحس وبالضرورة.

والعلم بحدوث هذه المحدثات علم ضروري لا يحتاج إلى دليل، وذلك معلوم بالحس أو بالضرورة: إما بإخبار يفيد العلم الضروري، أو غير ذلك من العلوم الضرورية.

وحدوث الإنسان من المني كحدوث الثمار من الأشجار، وحدوث [ ص: 220 ] النبات من الأرض، وأمثال ذلك. ومن المعلوم بالحس أن نفس الثمرة حادثة كائنة بعد أن لم تكن، وكذلك الإنسان وغيره. كما قال تعالى: أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا [سورة مريم: 67] ، قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا [سورة مريم: 9] .

ومعلوم أن هذه المخلوقات خلقت من غيرها كما خلق الإنسان من نطفة، والطائر من بيضة، والثمر من شجرة، والشجرة من نواة، والسنبلة من حبة. ومعلوم أن ما منه خلق هذا استحال وزال، فالحبة التي أنبتت سبع سنابل لم تبق حبة ولم يبق منها شيء، بل استحال.

وقد تنازع الناس في هذا الموضع، فقال طائفة من أهل الكلام: هنا أجسام وجواهر منتقلة من حال إلى حال، كالاجتماع بعد الافتراق، والافتراق بعد الاجتماع، وأن تلك الجواهر باقية، ولكن تغيرت صفاتها وأعراضها. وأنكر هؤلاء أن تكون نفس الأعيان القائمة بنفسها انقلبت حقيقتها فاستحالت ذاتها، ولكن تغيرت صفاتها. وهذا مبني على أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة.

وهؤلاء يقولون: إنما يعلم بالحس والضرورة حدوث ما يحدث من الأعراض والصفات، وأما حدوث شيء من الأجسام القائمة بأنفسها، فلا نعلمه إلا بالاستدلال. [ ص: 221 ]

والذي ذكره الأشعري أولا مبني على هذا الأصل، وهو في ذلك موافق لمن قال به من المعتزلة وغيرهم، وهذا من البقايا التي بقيت عليه من أصولهم العقلية، بعد رجوعه عن مذهبهم، وبيانه لبطلان أقوالهم التي أظهروا بها خلاف أهل السنة والجماعة.

وجمهور العقلاء من أصناف الناس - أهل النظر والفلسفة وغيرهم - يقولون: [إن] هذا باطل، وإن الأجسام يستحيل بعضها إلى بعض، كما يقول ذلك الفقهاء والأطباء وغيرهم، وكما يشهد ذلك، وإن الحادث هو نفس أعيان الحيوان والنبات لا مجرد صفاتها، وينكرون أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة.

والمنكرون للجوهر المفرد أكثر طوائف الكلام كالنجارية والضرارية والهشامية والكلابية وطائفة من الكرامية، مع جمهور الفلاسفة. [وقالت] طائفة من الفلاسفة وغيرهم: بل الأجسام التي يستحيل بعضها إلى بعض بينها مادة: وهي هيولى مشتركة بينها، هي بعينها باقية لم تتبدل، وإنما تبدلت الصورة، وتلك الهيولى جوهر عقلي. [ ص: 222 ]

وجمهور العقلاء أيضا ينكرون ذلك. وذلك أن المني إذا صار حيوانا والماء هواء والهواء ماء، ونحو ذلك، فالجسم الثاني له عين وصفات وليس عين الأول ولا صفاته، وإنما يشتركان في النوع، وهو: أن هذا له قدر، وهذا له قدر، وكل منهما يقبل الاتصال والانفصال، ولكن ليس عين قدر هذا هو عين قدر هذا، ولا نفس ما يقوم به الاتصال والانفصال من أحدهما هو عين الآخر الذي يقوم به الاتصال والانفصال، وأحدهما إذا قبل الاتصال والانفصال فهو اجتماعه وافتراقه، وذلك عرض له، والقابل للاجتماع - الذي هو الاتصال – هو القابل للافتراق الذي هو الانفصال، بمعنى أن نفس القائم به هو هو، ولكن تفرق بعد اجتماعه كالثوب والحجر ونحوهما مما يقطع ويكسر، وهو كالشمعة، التي تختلف صورها وهي هي بعينها، وكالفضة التي تختلف صورها مع بقاء عينها، فنفس العين - التي هي الجوهر والجسم - باقية، وإنما تغير شكلها وصفتها وذلك هو الصورة العرضية التي تغيرت، لم تتغير الحقيقة.

ولفظ (الصورة) لفظ مشترك: يراد بالصورة الشكل والهيئة، كصورة الخاتم والشمعة، والمادة الحامية لهذه الصورة هي الجسم بعينه.

ويراد بالصورة نفس الجسم المتصور، وهذا الجسم المتصور [ ص: 223 ] ليس له مادة تحمله، فإن الجسم القائم بنفسه لا يكون شائعا في الجسم قائما بنفسه، لكن خلق من مادة، كما خلق الإنسان من المني، وهذه المادة لا تبقى مع وجود ما خلق منها، بل تفنى وتعدم شيئا فشيئا. وهذا هو العدم المشهود في الأعيان، فإن الله تعالى كما ينشئ ما يخلقه شيئا فشيئا فيفنى ما يعدمه شيئا فشيئا. وقد بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع.

وإذ كان كذلك فالطريقة المذكورة في القرآن هي المعلومة بالحس والضرورة، ولا يحتاج مع ذلك إلى إقامة دليل على حدوث ما يحدث من الأعيان، بل يستدل بذلك على وجود المحدث تعالى.

وأما المعتزلة والجهمية ومن تبعهم، فطريقتهم المشهورة في إثبات حدوث العالم وإثبات الصانع هي الاستدلال: (بإثبات الأعراض أولا، وإثبات حدوثها ثانيا، وبيان استحالة خلو الجواهر عنها ثالثا، وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعا) ، وقد وافقهم عليها أكثر الأشعرية وغيرهم، وهذه هي التي ذمها الأشعري، وبين أنها ليست طريقة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ولا من اتبعهم، وإنما سلكها من يخالفهم من الفلاسفة وأتباعهم المبتدعة كما تقدم. وقد تقدم نقل كلامه في ذلك وهو المقصود، وكلامه يقتضي أنها محرمة في الدين [ ص: 224 ] مبتدعة، لا حاجة إليها لطول مقدماتها، وغموضها، وما فيها من النزاع. وهذا هو الذي قصدناه، وهو أنه نقل اتفاق السلف على الاستغناء عن هذه الطريقة. وأما بطلانها، فذاك مقام آخر، ليس في كلامه تعرض لذلك، ولهذا كان ما سلكه هو من جنس هذه الطريق.

التالي السابق


الخدمات العلمية