الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                أما الحلف على الدخول فالدخول اسم للانفصال من العورة إلى الحصن ، فإن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها فمكث بعد يمينه لا يحنث استحسانا ، والقياس أن يحنث ، ذكر القياس والاستحسان في الأصل .

                                                                                                                                وجه القياس أن المداومة على الفعل حكم إنشائه كما في الركوب واللبس ، بأن حلف لا يركب ولا يلبس وهو راكب ولابس فمكث ساعة أنه يحنث لما قلنا ، كذا هذا .

                                                                                                                                وجه الاستحسان الفرق بين الفصلين وهو أن الدوام على الفعل لا يتصور حقيقة ; لأن الدوام هو البقاء ، والفعل المحدث عرض ، والعرض مستحيل البقاء فيستحيل دوامه ، وإنما يراد بالدوام تجدد أمثاله وهذا يوجد في الركوب واللبس ولا يوجد في الدخول ; لأنه اسم للانتقال من العورة إلى الحصن ، والمكث قرار فيستحيل أن يكون انتقالا يحققه أن الانتقال حركة والمكث سكون وهما ضدان ، والدليل على التفرقة بين الفصلين أنه يقال ركبت أمس واليوم ولبست أمس واليوم من غير ركوب ولبس مبتدإ ولا يقال دخلت أمس واليوم إلا لدخول مبتدإ وكذا من دخل دارا يوم الخميس ومكث فيها إلى يوم الجمعة فقال والله ما دخلت هذه الدار يوم الجمعة بر في يمينه لذلك افترقا .

                                                                                                                                ولو حلف لا يركب أو لا يلبس وهو راكب أو لابس فنزل من ساعته أو نزع من ساعته لا يحنث عندنا خلافا لزفر .

                                                                                                                                وجه قوله أن شرط حنثه الركوب واللبس وقد وجد منه بعد يمينه وإن قل .

                                                                                                                                ( ولنا ) أن ما لا يقدر الحالف على الامتناع من يمينه فهو مستثنى منه دلالة ; لأن قصد الحالف من الحلف البر ، والبر لا يحصل إلا باستثناء ذلك القدر ، وسواء دخل تلك الدار ماشيا أو راكبا ; لأن اسم الدخول ينطلق على الكل .

                                                                                                                                ألا ترى أنه يقال دخلت الدار ماشيا ودخلتها راكبا ، ولو أمر غيره فحمله فأدخله حنث ; لأن الدخول فعل لا حقوق له فكان فعل المأمور مضافا إليه كالذبح والضرب ونحو ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه ، وإن احتمله غيره فأدخله بغير أمره لم يحنث ; لأن هذا يسمى إدخالا لا دخولا لما ذكرنا أن الدخول انتقال والإدخال نقل ، ولم يوجد ما يوجب الإضافة إليه وهو الأمر ، وسواء كان راضيا بنقله أو ساخطا لأن الرضا لا يجعل الفعل مضافا إليه فلم يوجد منه الشرط وهو الدخول ، وسواء كان قادرا على الامتناع أو لم يكن قادرا عليه عند عامة مشايخنا .

                                                                                                                                وقال بعضهم إن كان يقدر على الامتناع فلم يمتنع يحنث لأنه لما لم يمتنع مع القدرة كان الدخول مضافا إليه ، والصحيح قول العامة لأنه لم يوجد منه الدخول حقيقة وامتناعه مع القدرة إن جاز أن يستدل به على رضاه بالدخول لكن الرضا يكون بالأمر ، وبدون الأمر لا يكفي لإضافة الفعل إليه فانعدم الدخول حقيقة وتقديرا ، وسواء دخلها من بابه أو من غيره لأنه جعل شرط الحنث مطلق الدخول وقد وجد ، ولو نزل على سطحها حنث ; لأن سطح الدار من الدار إذ الدار اسم لما أحاط به الدائرة ، والدائرة أحاطت بالسطح .

                                                                                                                                وكذا لو أقام على حائط من حيطانها لأن الحائط مما تدور عليه الدائرة فكان كسطحها ، ولو قام على ظلة لها شارعة أو كنيف شارع فإن كان مفتح ذلك إلى الدار يحنث وإلا فلا لأنه إذا كان مفتحه إلى الدار يكون منسوبا إلى الدار فيكون من جملة الدار وإلا فلا وإن قام على أسكفة الباب فإن كان الباب إذا أغلق كانت الأسكفة خارجة عن الباب لم يحنث لأنه خارج وإن كان أغلق الباب كانت الأسكفة داخلة الباب حنث ; لأنه داخل لأن الباب يغلق على ما في داخل الدار لا على ما في الخارج ، وإن أدخل الحالف إحدى رجليه ولم يدخل الأخرى لم يحنث ; لأنه لم ينتقل كله بل بعضه وقد روي عن بريدة رضي الله عنه أنه قال { كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال لي إني لأعلم آية لم تنزل على نبي بعد سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام إلا علي فقلت وما هي يا رسول الله ؟ فقال : لا أخرج من المسجد حتى أعلمكها فلما أخرج إحدى رجليه فقلت في نفسي لعله قد نسي فقال لي : بم تفتتح القراءة ؟ فقلت : ببسم الله الرحمن الرحيم فقال صلى الله عليه وسلم هي هي } فلو كان هذا القدر خروجا لكان تأخير التعليم إليه خلفا في الوعد ولا يتوهم ذلك بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ودل الحديث على أن التسمية آية من القرآن ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها آية ، ومن [ ص: 37 ] أصحابنا من قال موضوع هذه المسألة في دار داخلها وخارجها سطح واحد فإن كانت الدار منهبطة فأدخل إليها إحدى رجليه حنث ; لأن أكثره حصل فيها وللأكثر حكم الكل ، فإن أدخل رأسه ولم يدخل قدميه أو تناول منها لم يحنث لأن ذلك ليس بدخول .

                                                                                                                                ألا ترى أن السارق لو فعل ذلك لا يقطع ؟ ولو حلف لا يدخل دارا فدخل خرابا قد كان دارا وذهب بناؤها لا يحنث ، ولو كانت حيطانها قائمة فدخل يحنث ، ولو عين فقال أدخل هذه الدار فذهب بناؤها لا يحنث ولو كانت حيطانها قائمة ودخل يحنث ولو عين فقال : لا أدخل هذه الدار فذهب بناؤها بعد يمينه ثم دخلها يحنث في قولهم ; لأن قوله دارا وإن ذكر مطلقا لكن المطلق ينصرف إلى المتعارف وهي الدار المبنية فيراعى فيه الاسم والصفة وهي البناء ; لأنه جار مجرى الصفة فما لم يوجد لا يحنث ، وقوله هذه الدار إشارة إلى المعين الحاضر فيراعى فيه ذات المعين لا صفته لأن الوصف للتعريف والإشارة كافية للتعريف وذات الدار قائمة بعد الانهدام ; لأن الدار في اللغة اسم للعرصة ، والعرصة قائمة ، والدليل على أن الدار اسم للعرصة بدون البناء قول النابغة

                                                                                                                                يا دار مية بالعلياء فالسند أقوت فطال عليها سالف الأبد     إلا الأواري لأيا ما أبينها
                                                                                                                                والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

                                                                                                                                سماها دارا بعدما خلت من أهلها وخربت ولم يبق فيها إلا الأواري والنؤي ولو أعيد البناء فدخلها يحنث ، أما في المعين فلا شك فيه لأنه لو دخلها بدون البناء يحنث فمع البناء أولى .

                                                                                                                                وأما في المنكر فلوجود الاسم والصفة وهي البناء وإن بنيت مسجدا أو حماما أو بستانا فدخله لا يحنث ; لأن اسم الدار قد بطل ألا ترى أنه لا يسمى دارا فبطلت اليمين ، ولو أعادها دارا فدخلها لا يحنث لأنها غير الدار الأولى

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية