الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وأنزل التوراة والإنجيل ) .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال الله تعالى : ( وأنزل التوراة والإنجيل ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 138 ] المسألة الأولى : قال صاحب " الكشاف " : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، والاشتغال باشتقاقهما غير مفيد ، وقرأ الحسن " والأنجيل " بفتح الهمزة ، وهو دليل على العجمية ، لأن أفعيل بفتح الهمزة معدوم في أوزان العرب ، واعلم أن هذا القول هو الحق الذي لا محيد عنه ، ومع ذلك فننقل كلام الأدباء فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            أما لفظ " التوراة " ففيه أبحاث ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : في اشتقاقه ، قال الفراء " التوراة " معناها الضياء والنور ، من قول العرب ورى الزند يري إذا قدح وظهرت النار ، قال الله تعالى : ( فالموريات قدحا ) [ العاديات : 2 ] ويقولون : وريت بك زنادي ، ومعناه : ظهر بك الخير لي ، فالتوراة سميت بهذا الاسم لظهور الحق بها ، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : ( ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء ) [ الأنبياء : 48 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : لهم في وزنه ثلاثة أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : قال الفراء : أصل " التوراة " تورية تفعلة بفتح التاء ، وسكون الواو ، وفتح الراء والياء ، إلا أنه صارت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : قال الفراء : ويجوز أن تكون تفعلة على وزن توفية وتوصية ، فيكون أصلها تورية ، إلا أن الراء نقلت من الكسر إلى الفتح على لغة طيئ ، فإنهم يقولون في جارية : جاراة ، وفي ناصية : ناصاة ، قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            فما الدنيا بباقاة لحي وما حي على الدنيا بباق



                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثالث : وهو قول الخليل والبصريين : إن أصلها : وورية ، فوعلة ، ثم قلبت الواو الأولى تاء ، وهذا القلب كثير في كلامهم ، نحو : تجاه ، وتراث ، وتخمة ، وتكلان ، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصارت " توراة " وكتبت بالياء على أصل الكلمة ، ثم طعنوا في قول الفراء ، أما الأول : فقالوا : هذا البناء نادر ، وأما فوعلة فكثير ، نحو : صومعة ، وحوصلة ، ودوسرة ، والحمل على الأكثر أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثاني : فلأنه لا يتم إلا بحمل اللفظ على لغة طيئ ، والقرآن ما نزل بها البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثالث : في التوراة قراءتان : الإمالة والتفخيم ، فمن فخم فلأن الراء حرف يمنع الإمالة لما فيه من التكرير ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الإنجيل ففيه أقوال :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الزجاج : إنه إفعيل من النجل ، وهو الأصل ، يقال : لعن الله ناجليه ، أي والديه ، فسمي ذلك الكتاب بهذا الاسم ، لأنه الأصل المرجوع إليه في ذلك الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال قوم : الإنجيل مأخوذ من قول العرب : نجلت الشيء إذا استخرجته وأظهرته ويقال للماء الذي يخرج من البئر : نجل ، ويقال : قد استنجل الوادي ، إذا خرج الماء من النز فسمي الإنجيل إنجيلا لأنه تعالى أظهر الحق بواسطته .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : قال أبو عمرو الشيباني : التناجل التنازع ، فسمي ذلك الكتاب بالإنجيل لأن القوم تنازعوا فيه .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أنه من النجل الذي هو سعة العين ، ومنه طعنة نجلاء ، سمي بذلك لأنه سعة ونور وضياء أخرجه لهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : أمر هؤلاء الأدباء عجيب كأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذا من شيء آخر ، ولو كان [ ص: 139 ] كذلك لزم إما التسلسل وإما الدور ، ولما كانا باطلين وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وضعا أولا : حتى يجعل سائر الألفاظ مشتقة منها ، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقا من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا ، والفرع هو ذاك الآخر ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل ، وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعا ومشتقا في غاية الشهرة ، وذاك الذي يجعلونه أصلا في غاية الخفاء ، وأيضا فلو كانت التوراة إنما سميت توراة لظهورها ، والإنجيل إنما سمي إنجيلا لكونه أصلا وجب في كل ما ظهر أن يسمى بالتوراة فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة ، ووجب في كل ما كان أصلا لشيء آخر أن يسمى بالإنجيل ، والطين أصل الكوز ، فوجب أن يكون الطين إنجيلا ، والذهب أصل الخاتم والغزل أصل الثوب فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع ، ويقولوا : العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع ، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة ، فلم لا نتمسك به في أول الأمر ونريح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات ؟ وأيضا فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان أحدهما بالعبرية والآخر بالسريانية ، فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب ؟ فظهر أن الأولى بالعاقل أن لا يلتفت إلى هذه المباحث والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية