الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومما يبين ذلك ما ذكره [الشيخ] أبو سليمان الخطابي في رسالته المعروفة في "الغنية عن الكلام وأهله" قال فيها: (وقفت على مقالتك وظهور ما ظهر بها من مقالات أهل الكلام، وخوض الخائضين فيها، وميل بعض منتحلي السنة إليها، واغترارهم بها، [ ص: 279 ] واعتذارهم في ذلك بأن الكلام وقاية للسنة، وجنة لها، يذب به عنها، ويزاد بسلاحه عن حريمها، وفهمت ما ذكرته من ضيق صدرك بمجالسهم، وتعذر الأمر عليك في مفارقتهم، لأن موقفك بين أن تسلم لهم ما يدعونه من ذلك فتقبله، وبين أن تقابلهم على ما يزعمونه فترده وتنكره، وكلا الأمرين يصعب عليك: أما القبول فلأن الدين يمنعك منه، ودلائل الكتاب والسنة تحول بينك وبينه، وأما الرد والمقابلة فلأنهم يطالبونك بأدلة العقول، ويؤاخذونك بقوانين الجدل، ولا يقنعون منك بظواهر الأمور، وسألتني أن أمدك بما يحضرني في نصرة الحق من علم وبيان، وفي رد مقالة هؤلاء القوم من حجة وبرهان، وأن أسلك في ذلك طريقة لا يمكنهم دفعها، ولا يسوغ لهم من جهة العقل جحدها وإنكارها، فرأيت إسعافك لازما في حق الدين، وواجب النصيحة لجماعة المسلمين، فإن الدين النصيحة) . [ ص: 280 ]

واستشهد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الدين النصحية، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .

قال: (واعلم أن هذه الفتنة قد عمت اليوم وشملت، وشاعت في البلاد واستفاضت، فلا يكاد يسلم من رهج غبارها إلا من عصمه الله، وذلك مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء .

قال: ثم إني تدبرت هذا الشأن، فوجدت عظم السبب [ ص: 281 ] فيه أن الشيطان صار اليوم بلطيف حيلته يسول لكل من أحس من نفسه بزيادة فهم، وفضل ذكاء وذهن، ويوهمه أنه إن رضي في علمه ومذهبه بظاهر من السنة، واقتصر على واضح بيان منها، كان أسوة للعامة، وعد واحدا من الجمهور والكافة، وأنه قد ضل فهمه، واضمحل لطفه وذهنه فحركهم بذلك [على] التنطع في النظر، والتبدع لمخالفة السنة والأثر، ليبينوا بذلك عن طبقة الدهماء، ويتميزوا في الرتبة عمن يرونه دونهم في الفهم والذكاء، فاختدعهم بهذه المقدمة حتى استزلهم عن واضح المحجة، وأورطهم في شبهات تعلقوا بزخارفها، وتاهوا [ ص: 282 ] عن حقائقها، ولم يخلصوا منها إلى شفاء نفس، ولا قبلوها بيقين علم) .

قال: (ولما رأوا كتاب الله ينطق بخلاف ما انتحلوه، ويشهد عليهم بباطل ما اعتقدوه، ضربوا بعض آياته ببعض، وتأولوها على ما سنح لهم في عقولهم، واستوى عندهم على ما وضعوه من أصولهم، ونصبوا العداوة لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولسنته المأثورة عنه، وردوها على وجوهها، وأساءوا في نقلتها القالة، ووجهوا عليهم الظنون، ورموهم بالتزيد، ونسبوهم إلى ضعف المنة، وسوء المعرفة بما يروونه من الحديث، والجهل بتأويله، ولو سلكوا سبيل القصد، ووقفوا عند ما انتهى بهم التوقيف، لوجدوا برد اليقين، وروح القلوب، ولكثرت البركة، [ ص: 283 ] وتضاعف النماء، وانشرحت الصدور، ولأضاءت فيها مصابيح النور، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) .

التالي السابق


الخدمات العلمية