الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فالمقصود أنه استدل بالخلق على الخالق.

قال القاضي أبو بكر: (ثم قال أبو الحسن مؤيدا لما ذكره من حدوث الإنسان، وحدوث تصويره [ ص: 305 ] وتعلقه بخالق خلقه، ومدبر دبره: وقد قال تعالى: أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [سورة الواقعة: 58 ، 59] فما استطاعوا بحجة أن يقولوا إنهم يخلقون مع تمنيهم الولد، فلا يكون، ومع كراهتهم له يكون قال: وقال تنبيها لخلقه على وحدانيته: وفي أنفسكم أفلا تبصرون [سورة الذاريات: 21]، فبين لهم عجزهم وفقرهم إلى صانع صنعهم، ومدبر دبرهم) .

قال القاضي أبو بكر: (واعملوا أن الغرض بذكر الآيتين الإخبار عن الله في نص كتابه بما دلهم العقول عليه، وتقريبه والتنبيه على موضع الاستدلال به من جهة السمع، ليكون المرء عند سماعه أقرب إلى العلم بإدراك ما يلتمس علمه، وترتيب ما النظر فيه على حقه وموجبه، وأن يجمع لأهل التوحيد المقرين بالسمع بين دلائل العقول وتنبيه السمع عليها، وأن النظر في مقدورات الله والاعتبار بها طريقا إلى العلم بصانعها المدبر لها والخالق لأعيانها) .

قال: (وأما وجه التنبيه من قوله: [ ص: 306 ] أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون [سورة الواقعة: 58 ، 59]، فهو أن من سبيل الخالق المنشئ، أن يكون ما خلقه واقعا بقصده وإرادته، وأن يجد نفسه قادرة عليه وعلى إيجاد عينه، إن كان مخترعا له، أو على تصويره وتخطيطه، إن كان الخلق تصويرا وتقديرا) .

قال: (وإذا ثبتت هذه الجملة، وعلمنا أن وجود الولد بوجود بنيته وهيئته، وليس بمقصور على إرادة الوالد، ولا مما يجد في نفسه القدرة عليه - ثبت بذلك أن الولد المخلوق ليس من فعل الوالد على سبيل المباشرة، ولا على جهة التولد عن حركاته) .

قال: (وأما وجه التنبيه من قوله: وفي أنفسكم أفلا تبصرون [سورة الذاريات: 21]، رده لهم إلى الاعتبار في أحوالهم، وتنقلهم من حال إلى حال، ومن تركيب إلى تركيب، وعجيب ما قد فعل بذواتهم من التصوير والتأليف، وخلق الحواس ومواضعها، وتركيب كل عضو من أعضائهم على صفة ما يحتاج إلى استعماله فيه: من اليد للبطش، والرجل للمشي، وغير ذلك من جوارحهم، وما يتجدد في أنفسهم من الحوادث التي لم تكن، ويزول عنهم من الأمور التي يؤثرون استدامتها، مع علمهم بأن الصورة لا بد لها من مصور، وأن التأليف للدار والكتابة وضروب المنسوجات والمصنوعات لا بد لها في عقولهم من صانع مؤلف، وأن التغير في صفاته مع جواز بقائه على ما يعبر عنه لا بد له من ناقل نقله، ومغير غيره، وأنهم يجب أن يعلموا بذلك أن تصوير الإنسان وتغيره في الأحوال التي ذكرها أولى أن يتعلق بمصور صوره، وناقل نقله وغيره من تركيب إلى تركيب، وحال إلى [ ص: 307 ] حال: أن الإنسان أقرب إلى علم هذا بالتنبيه من ناحية السمع عليه، وأجدر أن يتحقق علم ما فيه، وإن كان لو أفرد بعقله، وأحيل على صحيح نظره، لقال بما نبه السمع على مواضعه، وإن احتاج في ذلك إلى فضل فكر بالكد والروية وإتعاب النفس في طلب الحق) .

قال: (فهذا وجه التنبيه مما تلاه من التنزيل) .

وذكر في التوحيد والمعاد نحوا من ذلك، بخلاف نفي التشبيه، فإنه جعله من باب ما دل القرآن عليه بالخبر.

وأما ما ذكره هو وغيره: من أنهم عرفوا صدق الرسول بالمحجزات ابتداء، فهذا يكون على وجهين: أحدهما: أنهم عرفوا إثبات الخالق بالضرورة، ثم عرفوا صدق الرسول بالمعجزات.

والثاني: أن يقال: نفس ظهور المعجزات دلت على إثبات الخالق وعلى صدق رسوله، كما كان إظهار موسى للآيات: مثل العصا، واليد، دليلا على الصانع وعلى صدق الرسول.

ولهذا لما قال له فرعون: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين [سورة الشعراء: 29].

قال له موسى: قال أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين [سورة الشعراء: 31 - 33].

فأظهر موسى هذه الآيات لما قال له فرعون: لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين فدل ذلك على أنه أظهرها لإثبات [ ص: 308 ] العلم بالصانع، ولصدق الرسول. والأدلة الدالة على صدق الرسول كثيرة مبسوطة في غير هذا الموضع. وبنبوته يستدل على تفصيل صفات الله وأسمائه، وعلى توحيده الذي هو عبادته وحده لا شريك له، وهو توحيد الإلهية وكذلك على توحيد الربوبية.

فكلا نوعي التوحيد مما يمكن علمه بالسمع، وهذا مما اعترف به غير واحد من حذاق النظار، وقالوا: إنه يمكن العلم بصدق الرسول قبل العلم بالوحدانية، مع أن الخطابي أراد - والله أعلم - بعلم التوحيد: علم صفات الرب سبحانه وأسمائه، فإنهم يسمون ذلك علم التوحيد، وذلك مما يمكن معرفته بالشرع، فإنه يعلم بالفطرة، وبالعقل إثبات الصانع على طريق الإجمال، وأما تفصيل صفاته وأسمائه فتعلم بالسمع.

وأيضا فإذا عرف أن العلوم الإلهية حقيقتها موجودة عند الأنبياء عليهم السلام، فإنهم الصادقون المصدقون فيما يخبرون به من ذلك، وأن الواجب تلقي ذلك عنهم - كان العلم بأن هذا يستفاد من الرسول يمكن إثباته بما به يعلم أنه رسول، وإذا علم أنه رسول تعلم منه هذا [ ص: 309 ] المطلوب. كما إذا عرف أن علاج المرضى يؤخذ من الأطباء، والاستفتاء يرجع فيه إلى المفتين، وأمر التقويم يرجع فيه إلى المقومين. فإذا عرف أن هذا طبيب، أو مفت، أو مقوم، رجع إليه في ذلك.

وهذا مبسوط في غير هذا الموضع، وبين أن العلم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم له طرق متعددة، فمن ادعى من المتكلمين: المعتزلة والجهمية وموافقيهم - أنه لا يمكن العلم بصدقه إلا بعد العلم بحدوث الأجسام، وأن ذلك لا يعلم إلا بطريقة الأعراض، فقوله خطأ مبتدع، وهو الذي ذكر الخطابي أنه لم يسلك أحد من السلف هذه الطريق.

وأما الطريق العقلية التي ذكرها، فهي طريق دل عليها القرآن، وأرشد إليها، ونبه عليها، وهي الاستدلال بما يجدونه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة، ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكما عالما خبيرا. إلى قوله: (فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه، ثم تبينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما [ ص: 310 ] شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة، واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها) .

وهذا لأن الفعل الواحد المتسق المنتظم لا يكون عن اثنين، ولا يكون إلا عن عالم قادر، كما بين في غير هذا الموضع.

التالي السابق


الخدمات العلمية