الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

فصل

الذين اعتمدوا على عفو الله فضيعوا أمره ونهيه

وكثير من الجهال اعتمدوا على رحمة الله وعفوه وكرمه ، وضيعوا أمره ونهيه ، ونسوا أنه شديد العقاب ، وأنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين ، ومن اعتمد على العفو مع الإصرار على الذنب فهو كالمعاند .

قال معروف : رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق .

وقال بعض العلماء : من قطع عضوا منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم ، لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا .

وقيل للحسن : نراك طويل البكاء ، فقال : أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي .

وكان يقول : إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا بغير توبة ، يقول أحدهم : لأني أحسن الظن بربي ، وكذب ، لو أحسن الظن لأحسن العمل .

وسأل رجل الحسن فقال : يا أبا سعيد كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير ؟ فقال : والله لأن تصحب أقواما يخوفونك حتى تدرك أمنا خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف .

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : يجاء بالرجل يوم القيامة ، فيلقى في النار ، فتندلق أقتاب بطنه فيدور في النار كما يدور الحمار برحاه ، فيطوف به أهل النار ، فيقولون : يا فلان : ما أصابك ؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه .

وذكر الإمام أحمد من حديث أبي رافع قال : مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبقيع فقال : أف لك فظننت أنه يريدني ، قال : لا ، ولكن هذا قبر فلان ، بعثته ساعيا إلى آل فلان ، فغل نمرة فدرع الآن مثلها من نار .

[ ص: 29 ] وفي مسنده أيضا من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت : من هؤلاء ، قالوا : خطباء من أمتك من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم .

وفيه أيضا من حديثه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم ، وصدورهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ، ويقعون في أعراضهم .

وفيه أيضا عنه ، قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب والأبصار ، ثبت قلبي على دينك ، فقلنا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء .

وفيه أيضا عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل : ما لي لم أر ميكائيل ضاحكا قط ؟ قال : ما ضحك منذ خلقت النار .

وفي صحيح مسلم عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار ، فيصبغ في النار صبغة ، ثم يقال له : يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ في الجنة صبغة ، فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، ما مر بي بؤس قط ، ولا رأيت شدة قط .

وفي المسند من حديث البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثا - ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا ، وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان أهل الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : اخرجي أيتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ، فيجعلوها في ذلك الكفن ، وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : روح فلان بن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، فيستفتحون له فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى

[ ص: 30 ] السماء التي تليها حتى ينتهى به إلى السماء السابعة ، فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين ، وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ، فقال : فتعاد روحه إلى الأرض ، فيأتيه ملكان ، فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله عز وجل ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو محمد رسول الله ، فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله عز وجل فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فافرشوا له من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له بابا إلى الجنة قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مد بصره ، قال : ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : من أنت فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : رب أقم الساعة رب أقم الساعة ، حتى أرجع إلى أهلي ومالي ، قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا ، وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء ، سود الوجوه ، معهم المسوح ، فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال : فتغرق في جسده فينتزعها ، كما ينتزع السفود من الصوف المبتل ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يجعلونها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها ، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة . فيقولون : روح فلان بن فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، فيستفتح فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط [ الأعراف : 40 ] فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحا ، ثم قرأ : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ سورة الحج : 31 ] فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب عبدي ، فافرشوا له من النار ، وافتحوا له بابا إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ، [ ص: 31 ] ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : ومن أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول : رب لا تقم الساعة .


وفي لفظ لأحمد أيضا ثم يقيض له أعمى أصم أبكم ، في يده مرزبة ، لو ضرب بها جبلا كان ترابا ، ثم يعيده الله عز وجل كما كان ، فيضربه ضربة أخرى ، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين ، قال البراء : ثم يفتح له باب إلى النار ويمد له من فراش النار .

وفي المسند أيضا عنه ، قال : بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ بصر بجماعة ، فقال : علام اجتمع هؤلاء ؟ قيل : على قبر يحفرونه ، ففزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبدر بين يدي أصحابه مسرعا ، حتى انتهى إلى القبر ، فجثا على ركبتيه ، فاستقبلته بين يديه لأنظر ما يصنع ، فبكى حتى بل الثرى من دموعه ، ثم أقبل علينا ، فقال : أي إخواني ، لمثل هذا اليوم فأعدوا .

وفي المسند من حديث بريدة قال : خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فنادى ثلاث مرات : يا أيها الناس ، أتدرون ما مثلي ومثلكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم فبعثوا رجلا يتراءى لهم ، فأبصر العدو ، فأقبل لينذرهم ، وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه ، فأهوى بثوبه : أيها الناس أتيتم ، أيها الناس أتيتم ، ثلاث مرات .

وفي صحيح مسلم من حديث جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : كل مسكر حرام ، وإن على الله عز وجل عهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال ، قيل : وما طينة الخبال ؟ قال عرق أهل النار أو عصارة أهل النار .

وفي المسند أيضا من حديث أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وعليه ملك ساجد ، لو تعلمون ما أعلم ، لضحكتم قليلا ، ولبكيتم كثيرا ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل قال أبو ذر : والله لوددت أني شجرة تعضد .

وفي المسند أيضا من حديث حذيفة قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فلما انتهينا إلى القبر قعد على ساقيه ، فجعل يردد بصره فيه ، ثم قال : يضغط المؤمن فيه ضغطة تزول منها حمائله ويملأ على الكافر نارا ، والحمائل عروق الأنثيين .

[ ص: 32 ] وفي المسند أيضا من حديث جابر قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى سعد بن معاذ حين توفي ، فلما صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووضع في قبره ، وسوي‌ عليه ، سبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبحنا طويلا ، ثم كبر ، فكبرنا ، فقيل : يا رسول الله لم سبحت ، ثم كبرت ؟ فقال : لقد تضايق على هذا العبد الصالح قبره حتى فرج الله عنه .

وفي صحيح البخاري من حديث أبي سعيد ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إذا وضعت الجنازة ، واحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قدموني قدموني ، وإن كانت غير صالحة ، قالت : يا ويلها ، أين تذهبون بها ؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ، ولو سمعها الإنسان لصعق .

وفي مسند أحمد من حديث أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : تدنو الشمس يوم القيامة على قدر ميل ، ويزاد في حرها كذا وكذا ، تغلي منها الرءوس كما تغلي القدور ، يعرقون فيها على قدر خطاياهم ، منهم من يبلغ إلى كعبه ، ومنهم من يبلغ إلى ساقيه ، ومنهم من يبلغ إلى وسطه ، ومنهم من يلجمه العرق .

وفيه عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ؟ وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ ، فقال أصحابه : كيف نقول ؟ قال : قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا .

وفي المسند أيضا عن ابن عمر يرفعه : من تعظم في نفسه ، أو اختال في مشيته ، لقي الله وهو عليه غضبان .

وفي الصحيحين عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن المصورين يعذبون يوم القيامة ، ويقال لهم أحيوا ما خلقتم .

وفيهما أيضا عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله عز وجل يوم القيامة .

وفيهما أيضا عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صار أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار ، جيء بالموت حتى يوقف بين الجنة والنار ، ثم يذبح ، ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم ، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم .

وفي المسند عنه قال : من اشترى ثوبا بعشرة دراهم فيها درهم حرام لم يقبل الله له [ ص: 33 ] صلاة مادام عليه ، ثم أدخل إصبعيه في أذنيه ثم قال صمتا إن لم أكن سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله .

وفيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ترك الصلاة سكرا مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ، ومن ترك الصلاة سكرا أربع مرات كان حقا على الله أن يسقيه طينة الخبال ، قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله ؟ قال : عصارة أهل جهنم .

وفيه أيضا عنه مرفوعا من شرب الخمر مرة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال : فإن عاد كان حقا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة . .

وفي المسند أيضا من حديث أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من مات مدمنا للخمر سقاه الله من نهر الغوطة ، قيل : وما نهر الغوطة ؟ قال نهر يجري من فروج المومسات ، يؤذي أهل النار ريح فروجهن .

وفيه أيضا عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه ، أو آخذ بشماله .

وفي المسند أيضا من حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إياكم ومحقرات الذنوب : فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ، وضرب لهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلا ، كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا ، وأنضجوا ما قذفوا فيها .

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : يضرب الجسر على جهنم ، فأكون أول من يجوز ، ودعوى الرسل يومئذ ، اللهم سلم سلم ، وعلى حافتيه كلاليب مثل شوك السعدان ، تخطف الناس بأعمالهم ، فمنهم الموثق بعمله ، ومنهم المجردل ، ثم ينجو ، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد ، وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يرحم ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله ، أمر الملائكة أن يخرجوهم ، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود ، وحرم الله على النار أن تأكل من ابن آدم أثر السجود ، فيخرجونهم قد امتحشوا فيصب عليهم من ماء يقال له ماء الحياة ، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل .

وفي صحيح مسلم عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن أول الناس يقضى فيه [ ص: 34 ] يوم القيامة ثلاثة : رجل استشهد ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى قتلت ، قال : كذبت ، ولكن قاتلت ليقال : هو جرئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها ؟ قال تعلمت فيك العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ، فقال : كذبت ، ولكنك تعلمت ليقال ، هو عالم ، فقد قيل ، وقرأت القرآن ليقال : هو قارئ فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار وفي لفظ فهؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة .

وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : كما أن خير الناس الأنبياء فشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم ، فخير الناس بعدهم العلماء ، والشهداء ، والصديقون ، والمخلصون ، وشر الناس من تشبه بهم يوهم أنه منهم وليس منهم .

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم : من كانت عنده لأخيه مظلمة في مال أو عرض فليأته ، فليستحلها منه قبل أن يؤخذ وليس عنده دينار ولا درهم ، فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته فأعطيها هذا ، وإلا أخذ من سيئات هذا فطرحت عليه ثم طرح في النار .

وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أخذ شبرا من الأرض بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين .

وفي الصحيحين عنه قال : قال رسول الله : ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم ، قالوا : والله إن كانت لكافية ، قال : فإنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها .

وفي المسند عن معاذ قال : أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : لا تشرك بالله شيئا ، وإن قتلت أو حرقت ، ولا تعقن والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك ، ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمدا ، فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ، ولا تشربن خمرا ، فإنه رأس كل فاحشة ، وإياك والمعصية ، فإن المعصية تحل سخط الله .

والأحاديث في هذا الباب أضعاف أضعاف ما ذكرنا ، فلا ينبغي لمن نصح نفسه أن يتعامى عنها ، ويرسل نفسه في المعاصي ، ويتعلق بحسن الرجاء وحسن الظن .

قال أبو الوفاء بن عقيل : احذره ولا تغتر به ، فإنه قطع اليد في ثلاثة دراهم ، وجلد الحد في مثل رأس الإبرة من الخمر ، وقد دخلت المرأة النار في هرة ، واشتعلت الشملة نارا على من غلها وقد قتل شهيدا .

[ ص: 35 ] وقال الإمام أحمد : حدثنا معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال : دخل رجل الجنة في ذباب ، ودخل رجل النار في ذباب ، قالوا : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا ، فقالوا لأحدهما : قرب ، فقال ليس عندي شيء ، قالوا قرب ولو ذبابا ، فخلوا سبيله ، فدخل النار ، وقالوا للآخر : قرب ، فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئا من دون الله عز وجل ، فضربوا عنقه ، فدخل الجنة ، وهذه الكلمة الواحدة يتكلم بها العبد يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب .

وربما اتكل بعض المغترين على ما يرى من نعم الله عليه في الدنيا وأنه لا يغير ما به ، ويظن أن ذلك من محبة الله له ، وأنه يعطيه في الآخرة أفضل من ذلك ، فهذا من الغرور .

قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين بن سعد عن حرملة بن عمران التجيبي عن عقبة بن مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ، ثم تلا قوله عز وجل : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون [ سورة الأنعام : 44 ] .

وقال بعض السلف : إذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت مقيم على معاصيه فاحذره ؛ فإنما هو استدراج منه يستدرجك به ، وقد قال تعالى : ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين [ سورة الزخرف : 33 - 35 ] .

وقد رد سبحانه على من يظن هذا الظن بقوله : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمني وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني كلا [ سورة الفجر : 15 - 17 ] أي ليس كل من نعمته ووسعت عليه رزقه أكون قد أكرمته ، وليس كل من ابتليته وضيقت عليه رزقه أكون قد أهنته ، بل أبتلي هذا بالنعم ، وأكرم هذا بالابتلاء .

وفي جامع الترمذي عنه - صلى الله عليه وسلم : إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الإيمان إلا من يحب [ ص: 36 ] وقال بعض السلف : رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم ، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا يعلم ، ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية