الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ) . [ ص: 183 ] اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بين الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم ، فقال : ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان :

                                                                                                                                                                                                                                            الطريق الأول : أن هذا إعراض عن المحاجة ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مرارا وأطوارا ، فإن هذه السورة مدنية ، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن ، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وأيضا قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه ، فأولها أنه تعالى ذكر الحجة بقوله ( الحي القيوم ) [ البقرة : 255 ] على فساد قول النصارى في إلهية عيسى عليه السلام وبقوله ( نزل عليك الكتاب بالحق ) [ آل عمران : 3 ] على صحة النبوة ، وذكر شبه القوم ، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم ، ثم ذكر لهم معجزة أخرى ، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى : ( قد كان لكم آية في فئتين التقتا ) [ آل عمران : 13 ] ثم بين صحة القول بالتوحيد ، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) [ آل عمران : 18 ] ثم بين تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق ، واختلافهم في الدين ، إنما كان لأجل البغي والحسد ، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين ، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل ، فبعد هذا قال : ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل ، وإيضاح البينات ، فإن تركتم الأنف والحسد ، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين ، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم ، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام ، فإن المحق إذا ابتلي بالمبطل اللجوج ، وأورد عليه الحجة حالا بعد حال ، فقد يقول في آخر الأمر : أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى ، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم ، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد ، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه .

                                                                                                                                                                                                                                            الطريق الثاني : وهو أن نقول : إن قوله ( أسلمت وجهي لله ) محاجة ، وإظهار للدليل ، وبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع ، وكونه مستحقا للعبادة ، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم : هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الإثبات ، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طاعة الله تعالى وعبوديته ، وهذا القدر متفق عليه ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ) [ آل عمران : 64 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : في كيفية الاستدلال : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ، والإقرار بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه ، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام ، فأمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال : ( ثم أوحينا إليك أن ) [ ص: 184 ] ( اتبع ملة إبراهيم حنيفا ) [ النحل : 123 ] ثم إنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال : ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ) [ الأنعام : 79 ] فقول محمد صلى الله عليه وسلم : ( أسلمت وجهي ) كقول إبراهيم عليه السلام ( وجهت وجهي ) [ الأنعام : 79 ] أي أعرضت عن كل معبود سوى الله تعالى ، وقصدته بالعبادة وأخلصت له ، فتقدير الآية كأنه تعالى قال : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا مستمسك بطريقة إبراهيم ، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة ، بعيدة عن كل شبهة وتهمة ، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات ، وداخلا تحت قوله ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) [ النحل : 125 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع ، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير ، ثم قال : ( فإن حاجوك ) يعني فإن نازعوك في قولك ( إن الدين عند الله الإسلام ) فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله ، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية ، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته ، ولا أشرك به غيره ، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام ، وهذا الوجه يناسب الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع في كيفية الاستدلال : ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام ( لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ) [ مريم : 22 ] يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا ضارا ، ويكون أمري في يديه ، وحكمي في قبضة قدرته ، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادرا على هذه الأشياء ، امتنع في العقل أن أسلم له ، وأن أنقاد له ، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير ، والشر ، والنفع ، والضر ، والتدبير ، والتقدير .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : يحتمل أيضا أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) [ البقرة : 131 ] وهذا مروي عن ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله ( أسلمت وجهي لله ) ففيه وجوه : الأول : قال الفراء أسلمت وجهي لله ، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له ، ولم يشاركه غيره . قال : ويعني بالوجه هاهنا العمل كقوله ( يريدون وجهه ) [ الأنعام : 52 ] أي عبادته ، ويقال : هذا وجه الأمر أي خالص الأمر ، وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول : وجهت وجهي إليك ، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه : مر على وجهه . الثاني : أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله ، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه . الثالث : أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته ، عادل عن كل ما سواه .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله ( ومن اتبعن ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : حذف عاصم وحمزة والكسائي الياء من " اتبعن " اجتزاء بالكسر واتباعا للمصحف ، وأثبته الآخرون على الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 185 ] المسألة الثانية : " من " في محل الرفع عطفا على التاء في قوله ( أسلمت ) أي ومن اتبعني أسلم أيضا .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم قال أسلمت ومن اتبعن ، ولم يقل : أسلمت أنا ومن اتبعن.

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : إن الكلام طال بقوله ( وجهي لله ) فصار عوضا من تأكيد الضمير المتصل ، ولو قيل : أسلمت وزيد ، لم يحسن حتى يقال : أسلمت أنا وزيد ، ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر ، ومن جاء معي جاز وحسن .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية