الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الأثار

الحازمي - أبو بكر محمد بن موسى الحازمي الهمذاني

صفحة جزء
[ ص: 409 ] 2 - باب نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لقاح النخل ، ثم الإذن بعد ذلك

حديث اللقاح مشهور - ورواية أخرى لطلحة - تفنيد الحازمي لحديث جابر - خالف ذلك المعتزلة - الكشف عن مكنون حديث جابر رضي الله عنه .

قال أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم القزويني ، أخبرنا أبو بكر محمد بن الفضل ، حدثنا سعيد بن عنبسة الخزاز ، حدثنا محمد بن الفضيل ، حدثنا مجالد ، عن عامر ، عن جابر بن عبد الله ، قال : أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس يلقحون ، فقال : ما للناس ؟ قالوا : يلقحون . فقال : لا لقاح ، أو لا أرى اللقاح شيئا . فقال : فتركوا اللقاح ، فخرج ثمر الناس شيصا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما شأنه ؟ قالوا : كنت قد نهيت عن اللقاح . فقال : ما أنا بزارع ولا صاحب نخل ؛ لقحوا .

قرأت على أبي البركات عبد اللطيف بن أبي نصر بن محمد ، أخبرك أبو بكر محمد بن الفضل الغازي ، أخبرنا سعيد بن أحمد ، أخبرنا أبو محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد الرومي ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، حدثنا قتيبة ، حدثنا أبو عوانة ، عن سماك ، عن موسى بن طلحة ، عن أبيه ، قال : مررت يوما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رءوس النخل ، فقال [ ص: 410 ] ما يصنع هؤلاء ؟ فقال : يلقحون الذكر في الأنثى فتلقح . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أظن ذلك يغني شيئا . قال : فأخبروا بعد ذلك فتركوا ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه ، فإني إنما ظننت ظنا لا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به ؛ فإنني لن أكذب على الله

وهذا حديث مدني المخرج ، وقد تداوله الكوفيون ، وله طرق عندهم ، ويروى أيضا من حديث المدنيين من غير وجه ، وحديث جابر أبلغ في المقصود في باب النسخ ، غير أن الحديث فيه اختلاف ألفاظ ، فلا بد من تنقيح مناطه ليفهم منه المقصود ، فنقول : اتفق أهل العلم على أن المنسوخ لا بد وأن يكون حكما شرعيا ، وهذا أمر مقرر من غير خلاف يعرف فيه ، نعم اختلف الناس في مسألة ؛ وهي أن عندنا ما من حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ ، وخالفنا في ذلك جماهير المعتزلة ، وقالوا : هناك أفعال لا يمكن نسخها ، مثل الكفر والكذب والظلم ، وما شاكل ذلك ، وتستند دعواهم هذه إلى مسألة أخرى ؛ وهي أن التحسين والتقبيح عندهم يتلقيان من العقل ، وتفاصيل ذلك مذكورة في كتب أصول الفقه .

[ ص: 411 ] والآن بعد تمهيد هذه القاعدة ؛ بنا حاجة إلى الكشف عن مكمون الحديث والبحث عن مقصوده ، فنقول : ذهب بعضهم إلى أن قوله : لا لقاح في حديث جابر صيغة تدل على النهي ، نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل ، ولا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد قالوا : ولا يقال : إن هذا من قبيل المصالح الدنيوية ، ولا مدخل له في الأحكام الشرعية ؛ لأن للشارع أن يتحكم في أفعال العباد كيف أراد ، فهو من قبيل قوله تعالى : ( فإذا طعمتم فانتشروا ) قالوا : والذي يدل على شرعيته انتهاء القوم عن التلقيح حتى أذن لهم ، ولهذا قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : كنت نهيت عن اللقاح ! ولم ينكر عليهم فهم النهي ؛ بل أذن لهم ، والظاهر أن الإذن يستدعي سابقة منع ، يقال على قولهم : القدر الذي تمسكتم به لا يفي بالمقصود ؛ وذلك لأن المسلمين اتفقوا على استحالة وقوع ما يناقض مدلول المعجزة في حق الأنبياء - عليهم السلام - بدليل العقل ، وذلك نحو الكفر والجهل بالله تعالى ، والكذب والخطأ في الأحكام الشرعية ، والغلط ، غير أن طائفة ذهبت إلى جواز الغلط عليهم فيما يثبتونه بالاجتهاد ، لكنهم قالوا : لا يقرون عليه ، وهذا يستقيم على قول من يقول : المصيب واحد ، وأما من يقول : كل مجتهد مصيب لا يرى وقوع الخطأ من النبي - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاد غيره ، فكيف يراه في اجتهاده ؟ فعلى هذا [ ص: 412 ] فعلهم ذلك لم يكن شرعيا ؛ لأنه لو كان شرعيا لما كان قابلا لجواز وقوع الخطأ فيه ، وما يدل على قبوله وقوع الخطأ فيه قوله عليه السلام في حديث طلحة : إنني ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن .

وفي غير هذه الرواية : إنما ظننت ظنا ، وأن الظن يخطئ ويصيب ، ولو كان حكما شرعيا لما كان قابلا للخطأ والإصابة .

وفي قوله : " ظننت " دلالة على جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقا ، وفي ذلك خلاف بين أهل العلم .

وفي قوله - عليه السلام - : فإن الظن يخطئ ويصيب ، إشارة إلى أن المراد من ذلك - والله أعلم - ما كان من قبيل المصالح الدنيوية ، وذلك جائز من غير خلاف يعرف فيه ، وشواهد ذلك في الحديث كثيرة ، وإنما المقصود رفع الخطأ عنه في الأحكام الشرعية ، ثم يدل على ذلك أيضا قوله - صلى الله عليه وسلم - في آخر الحديث : فإني لن أكذب على الله .

وعلى الجملة الحديث يحتمل كلا المذهبين ، ولذلك أثبتناه في قوله - صلى الله عليه وسلم - إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه حجة لمن ذهب إلى النسخ ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية