الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                            ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد والنبوة ، وصحة دين الإسلام ، ثم قال لرسوله : ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ) ثم ذكر من صفات المخالفين كفرهم بالله ، وقتلهم الأنبياء والصالحين بغير حق ، وذكر شدة عنادهم وتمردهم في قوله : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ) ثم ذكر شدة غرورهم بقوله : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) ثم ذكر وعيدهم بقوله : ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ) أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعاء وتمجيد يدل على مباينة طريقه وطريق أتباعه ، لطريقة هؤلاء الكافرين المعاندين المعرضين ، فقال معلما نبيه : كيف يمجد ويعظم ويدعو ويطلب ( قل اللهم مالك الملك ) وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اختلف النحويون في قوله ( اللهم ) فقال الخليل وسيبويه : " اللهم" معناه : يا ألله ، والميم المشددة عوض من : يا ، وقال الفراء : كان أصلها يا ألله أم بخير ، فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء ، وحذفوا الهمزة من : أم ، فصار " اللهم " ونظيره قول العرب : هلم ، والأصل : هل ، فضم أم إليها .

                                                                                                                                                                                                                                            حجة الأولين على فساد قول الفراء وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : لو كان الأمر على ما قاله الفراء لما صح أن يقال : اللهم افعل كذا إلا بحرف العطف ، لأن التقدير : يا ألله أمنا واغفر لنا ، ولم نجد أحدا يذكر هذا الحرف العاطف .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو حجة الزجاج أنه لو كان الأمر كما قال ، لجاز أن يتكلم به على أصله ، فيقال " الله أم" كما يقال " ويلم " ثم يتكلم به على الأصل فيقال " ويل أمه " .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : لو كان الأمر على ما قاله الفراء لكان حرف النداء محذوفا ، فكان يجوز أن يقال : يا اللهم ، فلما لم يكن هذا جائزا علمنا فساد قول الفراء بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازما ، كما يقال : يا الله اغفر لي ، وأجاب الفراء عن هذه الوجوه ، فقال : أما الأول فضعيف ؛ لأن قوله " يا ألله أم " معناه : يا ألله اقصد ، فلو قال : واغفر لكان المعطوف مغايرا للمعطوف عليه فحينئذ يصير السؤال سؤالين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : قوله ( أمنا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قوله ( واغفر لنا ) [ البقرة : 286] أما إذا حذفنا العطف صار [ ص: 4 ] قوله : اغفر لنا تفسيرا لقوله : أمنا ، فكان المطلوب في الحالين شيئا واحدا فكان ذلك آكد ، ونظائره كثيرة في القرآن ، وأما الثاني فضعيف أيضا ، لأن أصله عندنا أن يقال : يا ألله أمنا . ومن الذي ينكر جواز التكلم بذلك ، وأيضا فلأن كثيرا من الألفاظ لا يجوز فيها إقامة الفرع مقام الأصل ، ألا ترى أن مذهب الخليل وسيبويه أن قوله : ما أكرمه ، معناه أي شيء أكرمه ثم إنه قط لا يستعمل هذا الكلام الذي زعموا أنه الأصل في معرض التعجب فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الثالث : فمن الذي سلم لكم أنه لا يجوز أن يقال : يا أللهم ؛ وأنشد الفراء :


                                                                                                                                                                                                                                            وأما عليك أن تقولي كلما سبحت أو صليت يا اللهما



                                                                                                                                                                                                                                            وقول البصريين : إن هذا الشعر غير معروف ، فحاصله تكذيب النقل ، ولو فتحنا هذا الباب لم يبق شيء من اللغة والنحو سليما عن الطعن ، وأما قوله : كان يلزم أن يكون ذكر حرف النداء لازما فجوابه أنه قد يحذف حرف النداء كقوله ( يوسف أيها الصديق أفتنا ) [ يوسف : 46 ] فلا يبعد أن يختص هذا الاسم بإلزام هذا الحذف ، ثم احتج الفراء على فساد قول البصريين من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنا لو جعلنا الميم قائما مقام حرف النداء لكنا قد أخرنا النداء عن ذكر المنادى ، وهذا غير جائز البتة ، فإنه لا يقال البتة ( الله يا ) وعلى قولكم يكون الأمر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : لو كان هذا الحرف قائما مقام النداء لجاز مثله في سائر الأسماء ، حتى يقال : زيدم ، وبكرم ، كما يجوز أن يقال : يا زيد ويا بكر .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : لو كان الميم بدلا عن حرف النداء لما اجتمعا ، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : لم نجد العرب يزيدون هذه الميم في الأسماء التامة لإفادة معنى بعض الحروف المباينة للكلمة الداخلة عليها ، فكان المصير إليه في هذه اللفظة الواحدة حكما على خلاف الاستقراء العام في اللغة وأنه غير جائز ، فهذا جملة الكلام في هذا الموضع .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ( مالك الملك ) في نصبه وجهان ؛ الأول : وهو قول سيبويه أنه منصوب على النداء ، وكذلك قوله ( اللهم فاطر السماوات والأرض ) [ الزمر : 46 ] ولا يجوز أن يكون نعتا لقوله ( اللهم ) لأن قولنا " اللهم " مجموع الاسم والحرف ، وهذا المجموع لا يمكن وصفه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : وهو قول المبرد والزجاج أن " مالك " وصف للمنادى المفرد ، لأن هذا الاسم ومعه الميم بمنزلته ومعه " يا " ولا يمتنع الصفة مع الميم ، كما لا يمتنع مع الياء .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم ، فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم ، وهم أعز وأمنع من ذلك ، وروي أنه - عليه الصلاة والسلام - لما خط الخندق عام الأحزاب ، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا ، وأخذوا يحفرون ، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فخبره ، فأخذ المعول من سلمان فلما ضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كأنه مصباح في جوف ليل مظلم ، فكبر وكبر المسلمون ، وقال - عليه الصلاة والسلام - : " أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب " ثم ضرب الثانية ، فقال : " أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم " ثم ضرب الثالثة فقال : " أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا" فقال المنافقون : ألا تعجبون من نبيكم يعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومداين كسرى ، وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا فنزلت هذه الآية والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            وقال الحسن : إن الله تعالى أمر نبيه [ ص: 5 ] أن يسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما ، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاء ، وهكذا منازل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية