الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 477 ] وكذلك ما ذكره آخرون كابن فورك أن المعنى: تعلم ما في نفسي، أي: في غيبي، ولا أعلم ما في نفسك، أي: في غيبك، يقال لهم: إن جعل لفظ النفس بمعنى الغيب فهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في آيات الله وأسمائه، وأن أريد أنك تعلم ما أغيبه في نفسي ولا أعلم ما تغيبه [ ص: 478 ] في نفسك فهذا صحيح، لكنه تطويل بلا فائدة، والآية أوضح من هذا، وأيضا فقول القائل: «تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك» لفظ مجمل فإن غيب الشخص ما غاب عن غيره وإن كان بعض الناس قد شهده، فإنا نؤمن بالغيب الذي هو غيب عنا، وإن كان من ذلك ما هو مشهود لغيرنا، وأما ما في نفسي فلا يعلمه غيره.

وأيضا لفظ الغيب هو في الأصل مصدر، ولكن يراد به الغائب، فالغيب الغائب، فإذا قيل: غيبي وغيبك، أي: غائبي وغائبك، فينبغي أن يقال: «تعلم غائبي ولا أعلم غائبك» أي حاجة إلى أن يقال: تعلم ما في غائبي ولا أعلم ما في غائبك؟! كيف يصح أن يقول عيسى لربه: تعلم ما في غيبي أو غائبي؟! وأي شيء يغيبه عيسى عن الله وهو على كل شيء شهيد؟! ولفظ الغيب إذا خوطب به مخاطب لا بد أن يكون غائبا عنه.

وأيضا فغيب الله الذي غيبه عن عباده الذي لا يعلمه العباد [ ص: 479 ] هو المعلوم نفسه، فأي شيء هو الذي في الغائب غيره؟!

وهذا من قديم تأويل الجهمية، ذكره عبد العزيز الكناني في الرد على الزنادقة والجهمية، قال في «باب: ما يسأل عنه الجهمية، يقال له: تقول: إن لله وجها، وله نفس، وله يد؟ فيقول: نعم، ولكن معنى قولي: «وجه الله» أي: هو الله، ومعنى قولي: «نفس الله» أريد به غيب الله، ومعنى «يد الله» [ ص: 480 ] نعمة الله، وتكلم على ما ذكروه في الوجه، قال: «وأما قوله: في نفس الله «هي غيبه» فكأنه لم يقرأ القرآن ولم يسمع الله عز وجل يقول: ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 30] وقوله: كتب ربكم على نفسه الرحمة [الأنعام: 54] وقوله: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [المائدة: 116] يليق أن يكون هذا: (ويحذركم الله غيبه) أو: (كتب ربكم على غيبه الرحمة) وقوله لموسى: واصطنعتك لنفسي [طه: 41] أي: لغيبي.

وأما قول المؤسس: «وكذلك القول في بقية الآيات» فلم يفصله، لكن قال: من تأول ذلك كابن فورك في قوله تعالى: ويحذركم الله نفسه [آل عمران: 30] [ ص: 481 ] وقالوا: «تأويله: عقوبته».

فيقال لهم: تحذير العباد نفسه كأمره لهم بخوفه فإن قال القائل: إن تحذير الله نفسه يتضمن تحذير عقوبته فهذا حق، وإن قال: لا معنى لذلك إلا تحذير عقوبته من غير أن يحذر نفسه فهذا تحريف.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

[ ص: 482 ] فلما استعاذ بصفاته ذكر الرضا والسخط والمعافاة والعقوبة، ثم ذكر النفس، فقال: «وأعوذ بك منك» فالاستعاذة من عقوبته هي معنى من ثلاث معان، فكيف يقال: لا محذور ولا مستعاذ منه إلا العقوبة؟ وقد قال تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير [آل عمران: 28].

وفي الجملة: فتحذير الله نفسه بمنزلة الأمر بالخوف منه، والأمر بتقواه، ومن المعلوم أن الله -تعالى- نفسه هو الذي يخاف، وعقوبته مما يخاف منه، وهو الذي يتقى، وعقابه يتقى بتقواه، وهو الذي يحذر عقابه، فنفي تعلق التحذير [ ص: 483 ] بها باطل، يذكر إن شاء الله تعالى بطرق في موضعه.

وأما قول المؤسس: وحكايته عن رب العزة قوله: «فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» فالمراد به: «إن ذكرني بحيث لا يطلع عليه غيره ذكرته بإنعامي وإحساني من غير أن يطلع عليه أحد من عبيدي؛ لأن الذكر في النفس عبارة عن الكلام الخفي، والذكر الكامن، وذلك على الله تعالى محال».

يقال له: لا نسلم أن هذا على الله تعالى محال، ولم تذكر على ذلك حجة، وهذا -والله أعلم- هو معنى ما ذكره الأئمة عن الجهم أنه قال: لا يوصف الله بالضمير، والضمير عن الله منفي؛ فإن الضمير ما يضمر فيه الشيء، أي يخفى، أي: لا يوصف بما فيه شيء خفي، لكن الجهم أوسع إنكارا من هذا المؤسس وذويه، وإنما أنكر الجهمية هذا؛ لأن الله عندهم لا يتكلم، ولا يذكر، ولا يقوم به ذكر، وإنما الكلام المضاف إليه عندهم ما يخلقه في الهواء، وهذا إنما يصلح إذا خلقه [ ص: 484 ] لمن سمعه من الملائكة والبشر، فإذا كان الذكر في نفسه لم يسمعه، وهذا الحديث نص صريح في إبطال مذهبهم.

وأما الكلابية والأشعرية فإنهم لا ينكرون أن يقوم بذاته، ذكر هو الكلام النفساني، لكن لا يجوز عندهم التفريق بين الإعلان والإسرار، فإن المعنى القائم بالذات لا ينقسم إلى سر وعلانية، ولا يكون منه شيء في نفس الرب وشيء من الملائكة عندهم، أكثر ما يقوله بعضهم أنه قد يسمع الملائكة ما يسمعهم إياه، فيكون التخصيص في خلق الإدراك للملائكة، والحديث نص في الفرق بين ذكره في نفسه وبين ذكره في الملأ بفرق يرجع إلى نفسه لا إلى خلق إدراك الملائكة.

فالحديث نص في إبطال قول هؤلاء أيضا، والحديث مستفيض في الصحيح، وله طرق منها في الصحيح حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول [ ص: 485 ] الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» وذكر العبد ربه في نفسه نوعان:

أحدهما: في نفسه من غير حروف يسمعها هو.

الثاني: ذكر بلفظ خفي، يسمعه هو دون غيره، قال تعالى: واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول [الأعراف: 205] وذكر العبد في نفسه يتناول القسمين جميعا.

ولهذا قال المؤسس: «إن الذكر في نفسه عبارة عن الكلام الخفي والذكر الكامن في النفس، وذلك على الله محال».

التالي السابق


الخدمات العلمية