الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 108 ] الفرق الخامس بين قاعدتي الشرط والاستثناء في الشريعة ولسان العرب ) في أن الشرط لا يجوز تأخير النطق به في الزمان ويجوز في الاستثناء ذلك على قول وأن الاستثناء لا يجوز في الشريعة .

ولا في لسان العرب أن يرفع جميع المنطوق به ويبطل حكمه نحو له عندي عشرة إلا عشرة بالإجماع ويجوز أن يدخل الشرط في كلام يبطل جميعه بالإجماع كقوله أنتن طوالق إن دخلتن الدار فلا تدخل واحد منهن فيبطل جميع الطلاق فيهن وأكرم بني تميم إن أطاعوا الله أو إن جاءوك فلا يجيء أحد فيبطل جميع الأمر بسبب هذا الشرط ولولا هذا الشرط لعم الحكم الجميع فقد باين الشرط الاستثناء في هذه الأحكام ويعم جميع الجمل المنطوق بها بخلاف الاستثناء على قول فإنه يحمل على الجملة الأخيرة على قول نحو أكرم بني تميم وأكرم القوم واخلع عليهم فقد باين الشرط الاستثناء في هذه الأحكام والفرق بين اشتراكهما في أن كل واحد منهما فضلة في الكلام ويتم الكلام دونه فينبغي أن يمتنع إبطال جملة الحكم فيهما تحقيقا لمقتضى اللغة أو يجوز فيهما تسوية بين البابين لكن الفرق أن الاستثناء يخرج من الكلام ما ليس بمراد عما هو مراد فهمه من غير المراد ولعله لو بقي مع المراد لم يختل الحكم [ ص: 109 ]

وأما الشروط اللغوية فهي أسباب كما تقدم بيانه والسبب متضمن لمقصد المتكلم وهو المصلحة التي لأجلها نصب شرطا وجعل عدمه مؤثرا في العدم فإذا كان متضمنا لمقصد المتكلم والمقاصد شأنها تعجيل النطق وشأنها أن تعم جميع الجمل تكثيرا لمصلحة ذلك المقصد بخلاف الاستثناء إذا لم يعجل به لم يفت به مقصد بل حصل ما ليس بمقصد وذلك فرق عظيم وأما إبطال جميع الكلام بالشرط فلأن الإبطال حالة النطق به غير معلوم فيستتبع الشرط في الجميع فلا يبطل من الكلام شيء وقد يفوت الشرط في الجميع فيبطل الجميع وقد يفوت في البعض فيبطل البعض دون البعض فهذه الأقسام كلها محتملة حالة النطق ولم يتعين منها الإبطال لا للكل ولا للبعض بخلاف الاستثناء الوارد على جميع الكلام يعد الناطق به نادما مقدما على الهذر من القول وما لا فائدة فيه ولا يقول أحد ذلك في الشرط لعدم تعينه وهذا فرق عظيم بينهما في الإبطال وعدمه فظهر الفرق بينهما في الثلاثة الأحكام الجائزة في الشرط الممتنعة في الاستثناء لغة وشرعا .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 107 - 108 ] قال : شهاب الدين ( الفرق الخامس بين قاعدتي الشرط والاستثناء في الشريعة ولسان العرب في أن الشرط لا يجوز تأخير النطق به في الزمان ويجوز ذلك في الاستثناء على قول وأن الاستثناء لا يجوز أن يرفع جميع المنطوق به ويبطل حكمه نحو له عندي عشرة إلا عشرة بالإجماع ويجوز أن يدخل الشرط في كلام يبطل جميعه بالإجماع كقوله أنتن طوالق إن دخلتن الدار فلا تدخل واحدة منهن إلى آخر ما قاله هذا الفرق ) قلت : إنما نظير عدم النطق بالاستثناء عدم النطق بالشرط ولا شك أنه إذا لم ينطق بالاستثناء فات مقصد وإذا لم ينطق بالشرط فات مقصد وقوله أنهما اشتركا في أن كل واحد منهما فضلة لا حجة فيه وليس كون واحد منهما فضلة يوجب الاستغناء عنهما وما قاله من أن الشرط إذا لم يقع بطل جميع المشروط هي حقيقة الشرط وما قاله من أن الشرط اللغوي سبب والسبب لا بد أن يكون مناسبا وما هو كذلك فشأنه تعجيل النطق به يقال له وكذلك الاستثناء فيلزم أن يكون شأنه التعجيل ، ثم إنه لو قال قائل : أعط بني تميم عند تمام هذه السنة وفي نفسه إن أطاعوا ، ثم لم ينطق به إلا عند رأس السنة عند الحاجة إليه لم يفت بذلك مقصد وكذلك في الاستثناء أعط بني تميم عند تمام السنة وفي نفسه إلا زيدا ، ثم لم ينطق به إلا عند رأس السنة لم يفت مقصد وتكون صورة النطق بالشرط عند تمام السنة بأن يقول مثلا ما أمرتك به من إعطاء بني تميم عند رأس السنة إنما ذلك بشرط أن يطيعوا وصورة النطق بالاستثناء أن يقول مثلا : ما أمرتك به من إعطاء بني تميم إنما ذلك على أن تدع منهم زيدا وبالجملة كلامه في هذا الفرق ليس بالجيد والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الخامس بين قاعدتي الشرط والاستثناء في الشريعة ولسان العرب ) وقع بالمباينة بينهما في ثلاثة أحكام مع اشتراكهما في أن كل واحد منهما فضلة بمعنى أنه ليس بأحد طرفي في الإسناد الحكم الأول لا يجوز تأخير النطق بالشرط في الزمان خلافا لابن عباس في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة لأنه لما كانت الأشياء كلها موقوفة على مشيئة الله سبحانه كان الظاهر والغالب من حال المتكلم إرادتها وإن تأخرت بخلاف بقية الشروط وغيرها كما نقله العطار عن القرافي على محلى جمع الجوامع ويجوز تأخير النطق بالاستثناء في الزمان على قول لابن عباس وغيره وإن حكى ابن رشد الإجماع على عدم جواز ذلك وأول ما ورد عن ابن عباس من إجازة الاستثناء بعد عام لقول الرهوني لكن ذلك غير مسلم انظر ما في ذلك من الأقوال في جمع الجوامع في أول مبحث المخصص نعم اشتراط الاتصال في الاستثناء متفق عليه في المذهب كما يظهر من كلامهم ا هـ بتصرف .

( قلت : ) بل في شرح الهداية كما نقله شارح التحرير الأصولي ما نصه واشتراط الاتصال قول جماهير العلماء منهم الأربعة ا هـ ولفظ التحرير لنا لو تأخر لم يعين .

[ ص: 117 ] تعالى لبر أيوب عليه السلام أخذ الضغث ولم يقل صلى الله تعالى عليه وسلم فليكفر مقتصرا إذا لم يتعين مخلصا مع اختياره الأيسر لهم دائما بلا تفصيل بين مدة ومنوي وغيرهما وأيضا لم يجزم بطلاق وعتاق وكذب وصدق ولا عقد ودفع أبو حنيفة عتب المنصور بلزوم عدم لزوم عقد البيعة ا هـ فمن هنا قال الغزالي في المنخول : والوجه تكذيب الناقل فلا يظن به ذلك ا هـ .

وقول بعض الشافعية يجوز تقليد رواياته في الإيمان والتعاليق وغيرها في حق نفسه ويجوز تعليمها للعوام ولا يجوز الإفتاء بها .

قال العطار : مما لا ينبلج له الصدر خصوصا في الطلاق لمزيد الاحتياط في الأنكحة واضطراب الرواية عنه يقضي بعدم تحرير النقل وإن فرض صحته فتأمل ا هـ .

وقيل وسر الفرق بينهما في هذا الحكم هو أن الشروط اللغوية لما كانت أسبابا كما تقدم بيانه والسبب متضمن لمقصد المتكلم وهو المصلحة التي لأجلها نصب شرطا وجعل عدمه مؤثرا في العدم كان الشأن فيه تعجيل النطق بخلاف الاستثناء فإنه لما لم يتضمن لمقصد المتكلم وإنما يخرج من الكلام ما ليس بمراد عما المراد فهمه من المستثنى منه ولعله لو بقي مع المراد ولم يخرج لم يختل الحكم لم يكن الشأن فيه ذلك وفيه نظر من ثلاثة وجوه : الوجه الأول أنا لا نسلم أن عدم النطق بالاستثناء لا يفوت مقصدا بخلاف عدم النطق بالشرط إذ لا شك في أنه إذا لم ينطق بالاستثناء فات مقصد فعدم النطق بالاستثناء نظير عدم النطق بالشرط وليس كون كل واحد منهما فضلة بمعنى أنه ليس أحد ركني الإسناد يوجب الاستغناء عنهما ، الوجه الثاني كما قال . إن الشرط اللغوي سبب والسبب لا بد أن يكون مناسبا وما هو كذلك فشأنه تعجيل النطق به كذلك يقال في الاستثناء فيلزم أن يكون شأنه التعجيل ضرورة أن كلا منهما يتضمن مقصد المتكلم كما علمت ، الوجه الثالث أنه لو قال قائل : أعط بني تميم عند تمام هذه السنة وفي نفسه إن أطاعوا ثم لم ينطق به إلا عند رأس السنة عند الحاجة إليه لم يفت بذلك مقصد وكذلك في الاستثناء أعط بني تميم عند تمام السنة وفي نفسه إلا زيدا ثم لم ينطق به إلا عند رأس السنة لم يفت مقصد وتكون صورة النطق بالشرط عند تمام السنة أن يقول مثلا : ما أمرتك به من إعطاء بني تميم عند رأس السنة إنما ذلك .

[ ص: 118 ] بشرط أن يطيعوا وصورة النطق بالاستثناء أن يقول مثلا : ما أمرتك به من إعطاء بني تميم إنما ذلك على أن تدع منهم زيدا وبالجملة فهذا الفرق ليس بالجيد الحكم الثاني لا يجوز أن يرفع الاستثناء جميع المنطوق به ويبطل حكمه ففي نحو له عندي عشرة إلا عشرة يلزمه عشرة بالإجماع وما نقله القرافي عن المدخل لابن طلحة المالكي فيمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا أنه لا يقع عليه طلاق في أحد القولين كما في محلى جمع الجوامع .

قال العطار عن شيخ الإسلام : إن القرافي قال بعد نقله الأقرب : أن هذا الخلاف باطل لأنه مسبوق بالإجماع نعم صرح السيوطي في الأشباه والنظائر أنه لو قال : أوصيت له بعشرة إلا عشرة كان رجوعا عن الوصية فافهم ا هـ .

ويجوز أن يدخل الشرط في كلام يبطل جميعه بالإجماع كقوله أنتن طوالق إن دخلتن الدار فلا تدخل واحدة منهن فيبطل جميع الطلاق فيهن وأكرم بني تميم إن جاءوك فلا يجيء أحد فيبطل جميع الأمر بسبب هذا الشرط ولولا هذا الشرط لعم الحكم الجميع ووجه الفرق بينهما في هذا الحكم هو أن الإبطال حالة النطق بالشرط غير معلوم فقد يقع الشرط في الجميع فلا يبطل من الكلام شيء وقد يفوت الشرط في الجميع فيبطل الجميع وقد يفوت في البعض فيبطل البعض دون البعض فهذه الأقسام كلها محتملة حالة النطق ولم يتعين منها الإبطال لا للكل ولا للبعض بخلاف الاستثناء الوارد على جميع الكلام يعد الناطق به نادما مقدما على الهذر من القول وما لا فائدة فيه ولا يقول أحد ذلك في الشرط لعدم تعينه الحكم الثالث يعم الشرط جميع الجمل المنطوق بها قيل اتفاقا وقيل : على الأصح وصحح قال في جمع الجوامع وعلى ذلك الأصح هو أولى بالعود إلى الكل ا هـ أي كل الجمل المتقدمة كما في المحلي .

قال العطار : وأما المفردات ففي كلام ابن الحاجب وغيره ما يؤخذ منه الاتفاق فيها كما بين ذلك العلامة البرماوي ويعرف وجه الأولوية من فرق المحلي الآتي ا هـ ولا يعم الاستثناء جميع الجمل المنطوق بها بل يحمل على الجملة الأخيرة على قول نحو أكرم بني تميم وأكرم القوم واخلع عليهم .

[ ص: 119 ] إلا زيدا نظرا للقول بأن العامل في المستثنى هو العامل في المستثنى منه فلو عاد لجميع الجمل كما قاله الشافعي للزم توارد عوامل على معمول واحد نعم وجه الشافعية عود المستثنى المتأخر للجمل مع القول بأن العامل ما قبل إلا لا إلا بتقدير استثناء عقب ما قبل الأخيرة ويكون حذف من أحدهما لدلالة الآخر عليه كما في العطار على محلى جمع الجوامع ووجه الفرق بينهما على هذا الحكم قيل هو أن الشرط اللغوي سبب متضمن لمقصد المتكلم وما هو كذلك فشأنه أن يعم جميع الجمل تكثيرا لمصلحة ذلك المقصد بخلاف الاستثناء فإنه ليس متضمنا لمقصد المتكلم فلم يكن من شأنه أن يعم وقد علمت ما فيه وقال المحلي على جمع الجوامع هو أن الشرط له صدر الكلام فهو مقدم تقديرا لتوقف المشروط على تحققه وإن تأخر في اللفظ بخلاف الاستثناء فإنه متأخر في التقدير أيضا لتوقف الإخراج على وجود المخرج منه فلا يلزم من عود الشرط إلى الجميع لتقدمه عود الاستثناء إليه مع تأخره لأن للتقدم أثرا في عوده إلى الكل لأنه إذا كان متقدما يكون ما عدا الأولى معطوفة على جملة تقرر لها الجزائية والعطف للمشاركة فيناسب أن تشاركها فيما ثبت لها بخلاف الأخيرة في الاستثناء فإنها لم تعطف على ما ثبت له الاستثناء لأن الاستثناء يذكر بعدها فلو عاد إلى الكل لصار المعطوف عليه مشاركا للمعطوف فيما ثبت له والأمر بالعكس وضعف بأن الشرط إنما يتقدم على المقيد به فقط أي الذي قصد تقييده به فيمكن أن المتكلم قصد أن يجعله قيدا لبعض الجمل لا لكلها ا هـ بتوضيح من العطار والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية