الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
والكلام على هذا أن يقال: لفظ اللقاء من أسماء الأفعال المقتضية للحركة والقرب إلى الله تعالى، وفي الكتاب والسنة من هذا أنواع عديدة، كلفظ المجيء في قوله تعالى: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم [الأنعام: 94]. وقوله: لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا [الكهف: 48]. وقوله: حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين [الزخرف: 38]. [ ص: 6 ] وفيها قراءتان مشهورتان، وقوله: إذ جاء ربه بقلب سليم [الصافات: 84]. ولفظ الذهاب وهو قول إبراهيم: إني ذاهب إلى ربي سيهدين [الصافات: 99].

ولفظ الإتيان كما في قوله تعالى: ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين [النمل: 87]. وقوله: إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا [مريم: 93].

ولفظ الرجوع كقوله تعالى: واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [البقرة: 281]. وقال: قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون [البقرة: 156]. لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون [المائدة: 105]. وقال: كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون [الأنعام: 108]. وقال: فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا [المائدة: 48]. وقوله: إن إلى ربك الرجعى [ ص: 7 ] [العلق: 8]. وقوله: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي [الفجر: 27-30].

ولفظ الحشر كقوله تعالى: ثم إلى ربهم يحشرون [الأنعام: 38]. وقوله: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع [الأنعام: 51]. ونحو ذلك مما في كتاب الله يكاد يبلغ مئين.

وقوله: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون [الجاثية: 15]. وقوله: فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون [يس: 83]. وقوله: ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم [لقمان: 23]. ولفظ الإياب [ ص: 8 ] كقوله: إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم [الغاشية: 25-26]. ولفظ المصير كقوله: وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير [التغابن: 3]. وقوله: ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير [الممتحنة: 4]. وقوله: الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير [الشورى: 15]. -وهذا أيضا كثير- ولفظ الكدح وهو قوله: يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه [الانشقاق: 6]. ولفظ الانقلاب لقوله عن السحرة: لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون [الشعراء: 50]. وإليه تقلبون [العنكبوت: 21]. ولفظ الاستقرار وهو قوله: يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر [ ص: 9 ] [القيامة: 10-12]. ولفظ السوق كقوله تعالى: والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ المساق [القيامة: 29-30]. ونحوه، وقوله: وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [ق: 21]. لكن هنا لم يذكر اللفظ الذي يبين إلى من يساق.

ونحن لم نذكر من ألفاظ القرآن إلا ما صرح فيه بما هو ذهاب إلى الله، ولفظ التبتل وهو قوله: وتبتل إليه تبتيلا [المزمل: 8]. ولفظ العروج لقوله تعالى: تعرج الملائكة والروح إليه [المعارج: 4]. ولفظ الرد كقوله تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة [الجمعة: 8]. وقوله عن المؤمن: وأن مردنا إلى الله [غافر: 43]. وقوله: ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ ص: 10 ] [الكهف: 36]. وقوله: ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام: 60-62]. ولفظ الانتهاء كقوله: وأن إلى ربك المنتهى [النجم: 42]. ولفظ الفرار كقوله تعالى: ففروا إلى الله [الذاريات 50]. ولفظ الإنابة كقوله تعالى: وأنيبوا إلى ربكم [الزمر: 54]. وقال: ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب [الشورى: 10]. وقوله: واتبع سبيل من أناب إلي [لقمان: 15]. ولفظ التوبة كقوله تعالى: وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون [النور: 31]. وقال: يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا [التحريم: 8]. وقال: وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين [الأحقاف: 15]. وقوله: فإنه يتوب إلى الله متابا [الفرقان: 71]. وقوله: قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب [الرعد: 30]. ولفظ الأوب كقوله: إليه أدعو وإليه مآب [الرعد: 36]. [ ص: 11 ] ولفظ الاستقامة كقوله تعالى: فاستقيموا إليه واستغفروه [فصلت: 6]. ولفظ الهجرة قال: وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم [العنكبوت: 26]. ولفظ الصعود كقوله تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [فاطر: 10]. ولفظ الملجأ كقوله تعالى: وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه [التوبة: 118]. إلى أمثال ذلك كما هو في كتاب الله كاف مبلغ مبين.

وأما ذكر لقاء الله فقد ذكره الله في القرآن في مواضع كثيرة، كقوله: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين [البقرة: 223]. وقوله: فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين [البقرة: 249]. وقوله: قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون الآية [الأنعام: 31]. وقوله: ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين [ ص: 12 ] [يونس: 45]. وقوله: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون [الأنعام: 154]. وقوله تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون [التوبة: 75-77]. وقوله: إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون [يونس: 7]. وقوله: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله [يونس: 15]. وقوله: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [الكهف: 110]. وقوله: قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم [الكهف: 103-105]. [ ص: 13 ]

وقوله: والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي [العنكبوت: 23]. وقوله: والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون [الأعراف: 147]. وقوله: من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت [العنكبوت: 5]. .وقوله: وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون [الروم: 8]. وقوله: تحيتهم يوم يلقونه سلام [الأحزاب: 44]. وقوله: ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط [فصلت: 54].

إذا عرف أن الإخبار بلقاء العباد لربهم مذكور في كتاب الله في قريب من عشرين موضعا، وأن ما يشبه هذا مذكور في مواضع يدخل في الناس، فقد ذكر الله هذا اللفظ في حق غير الله في مواضع، كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار [الأنفال: 15]. [ ص: 14 ] وقوله: إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا [الأنفال: 45]. وقوله: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة [آل عمران: 13]. وقوله: إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان [الأنفال: 41]. وقوله: لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون [غافر: 15-16].

من هذا الباب على أكثر الأقوال، وقد أخبر الله بلقاء يوم القيامة في قوله: فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون [الطور: 45]. وقوله: فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون [الزخرف: 83]. [والمعارج: 42].

التالي السابق


الخدمات العلمية