الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فقال القاضي أبو بكر: (وأما توجيه كلام أبي الحسن إلى أن الخلق بمعنى الاختراع والابتداع فصحيح مع أكثر أهل الدهر، لأن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يزعمون أن العالم محدث من غير محدث، وأنه متشكل ومتصور بغير مصور ولا مدبر، مع إظهارهم الإقرار بحدوثه وأنهم لذلك يعتقدون، فإذا حصل هذا الإقرار من الفريق الذين ذكرناهم بحدث الأجسام وتصويرها وتركيبها، مع إنكارهم الصانع المصور، كان الكلام معهم في تعلقها بمحدث أحدثها وصورها، بعد الأصل الذي قد سلموه صحيحا)

قال: (وقد زعم قوم من المسلمين أن شطر الحوادث، أو قريبا من شطرها، يقع من غير محدث ولا فاعل أصلا، وهو ثمامة بن [ ص: 104 ] أشرس النميري وشيعته، لأنه كان يزعم أن المتولدات كلها لا فاعل لها، وهي مع ذلك حوادث وأفعال) .

قال: (وإنما ذكرت لك هذه الفرقة من أهل الملة، لتعلم أن الإقرار بحدث الشيء وإنكار محدثه مذهب قد شاع في أهل الملة وغيرهم، وأن تعجب من تعجب من هذا وإنكاره دليل على جهله وشدة غباوته، وقلة عنايته بمعرفة مذاهب الأمم السالفة، ومن بعدهم من شيوخه المعتزلة، مع أن الدعوة التي عول عليها صاحب الاعتراض، هو أن قال: كل من أقر بالشيء المحدث المخلوق أقر بالخالق، وكل من اعترف بمفعول اعترف بالفاعل، ولو سلم أن الجسم مخلوق لم يحتج إلى تعاطي الدليل على إثبات الصانع الخالق) .

قال: (وقد أنبأنا بالذي سلف من الكلام على جهله في هذا، وذهابه عن جهة الصواب فيه. ثم نقول: فهب أن الأمر كما وصفته، ما الذي فيه يوجب غلط واضع الكتاب في تعاطيه إقامة الدليل على إثبات الخالق؟ وقد اتفق الجميع من العاقلين على أن الأفعال تتعلق بفاعل، وأن المخلوقات تتعلق بخالق، ليس هو مما يعلم بالاضطرار، ولا يثبت بدرك الحواس، وإنما يتطرق إليه بالبحث والفحص، إلا شرذمة قليلة لا يعتد بقولها، ادعت في هذا المذهب البديهة، وأن [ ص: 105 ] العلم يقع به عند كمال العقل، وليس هذا من قولنا وقول هذا المعترض، وقد يصح أن يشك في وجوب هذا التعلق من العقلاء شاكون إذا عدلوا عن جهة الاستدلال، وطرق الاستشهاد المؤدي إلى معرفة وجوب تعلق الفعل بالفاعل، وإذا كان هكذا لم يستنكر ما سلكه شيخنا رضي الله عنه من ذكر الدليل على أن الإنسان ليس هو المحدث لنفسه، وأن له محدثا سواه، وأن المخلوق لا بد له من أن يتعلق بخالق، فإذا كان هذا إنما يعلم بالاستدلال، فكأنه إنما أراد أن يعرف المتعلم وجه الدليل الذي أدى المجمعين إلى وجوب تعلق الفعل بالفاعل، وما من أجله أجمعوا على ذلك، فما في هذا مما يعاب، لولا فرط الجهل وسوء الظن بالشيوخ؟!

وأيضا فإن الذي عابه هذا المعترض غلط بين من قبل أنه سام الرجل إقامة الدليل على حدوث الجسم قبل إقامته على وجود محدثه. وهذا الترتيب لعمري يجب على من قصد إلى أن يدل على الأمرين. فأما من قصد أن يقيم الدلالة على أحدهما، وهو أن المحدث يتعلق بوجود محدث، فلا يجب عليه ذلك، فإنه قصد إلى الكلام في إحدى المسألتين دون الأخرى) .

قال: (وقد يقضي القول في هذا الذي سامه هذا المعترض في إثبات الأعراض وحدوث الأجسام في غير كتاب بما لا يخفى على من [ ص: 106 ] عرف من مذهبه القليل واطلع منه على اليسير) .

التالي السابق


الخدمات العلمية