الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت: ولقائل أن يقول: ما ذكره القاضي أبو بكر ليس فيه جواب عن الأشعري، بل كلام الأشعري صحيح في نفسه لا يحتاج إلى ما ذكره.

وبيان ذلك من وجهين:

أحدهما: أن كلام الأشعري ليس فيه إقامة دليل على هذه المقدمة التي جعلها القاضي نظرية، وهو تعلق الفعل بالفاعل، وأن المخلوق لا بد له من خالق. بل الأشعري ذكر هذه المقدمة ذكرا مطلقا، وجعلها مسلمة، ولم ينازع فيها من يعبأ به، ولهذا لا يعرف في أهل المقالات المعروفة من نازع فيها.

وقول القاضي: إن كثيرا من الدهرية والفلاسفة يقولون: إنه محدث من غير محدث، فهذا القول إنما يحكى عن شرذمة لا يعرف من هم، وقد تأول الشهرستاني وغيره ذلك بأنهم أرادوا به أن سبب حدوثه كان بالاتفاق، لا أنهم أنكروا الصانع، وحينئذ فيكونون قد أثبتوا فاعلا ولم يثبتوا سببا للحدوث. [ ص: 107 ]

وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث، ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع، وقال لهم الناس: هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع، وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة، لم يتجدد فيه شيء أزلا وأبدا، ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحا بلا مرجح. فقول أولئك الدهرية وقول محمد بن زكريا الرازي وأمثاله في إحالة الحدوث على تعلق النفس بالهيولى وأمثال ذلك، كل ذلك ينزع إلى أصل واحد، وهو إثبات حدوث حادث بلا سبب حادث.

والفلاسفة القائلون بقدم العالم، كأرسطو وابن سينا وأمثالهما، جعلوا هذا حجة على القائلين بحدوث العالم، لكن قولهم تضمن هذا وما هو أقبح منه، فإنهم زعموا أن الحوادث كلها تحدث عن علة تامة قديمة مستلزمة لمعلولها، لا يتأخر عنها شيء من معلولها، كما يقوله ابن سينا وأمثاله: إن الأول يحرك المتحركات، بمعنى أنها تتحرك للتشبه به، لا أنه أبدع حركتها، كما أنها لم يدعها عندهم، فلزم من [ ص: 108 ] ذلك أن تكون الحوادث كلها حدثت بلا محدث، وذلك أعظم من كونها حدثت بلا سبب حادث، وقد بسط هذا في موضعه.

وأما ما حكاه القاضي عن ثمامة، فهو من لوازم قوله، كما أن المعتزلة البصريين لما قالوا: تحدث إرادة لا في محل بلا إرادة، ألزمهم الناس بحدوث الحوادث كلها بلا إرادة، وهو ينفي عنها الفاعل الإرادي، لا ينفي سببا اقتضى حدوثها، وهم مع هذا معترفون بأنه لا بد للحوادث من فاعل مختار، ولكن لازم المذهب ليس بمذهب، وليس كل من قال قولا التزم لوازمه التي صرح بفسادها، بل قد يتفق العقلاء على مقدمة وإن تناقض بعضهم في لوازمها، ولهذا كانت الشبه الواردة على قول القائل: إن التخصيص الحادث لا بد له من محدث مخصص، أو أن الممكن لا بد له من مرجح، أعظم مما يرد على أن المحدث لا بد له من محدث.

التالي السابق


الخدمات العلمية