الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه تعالى لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس ، ثم من المعلوم أن الخيانة في أموال الناس لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة لا جرم ذكر عقيب تلك الآية هذه الآية المشتملة على وعيد من يقدم على الأيمان الكاذبة .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم ( ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) [ آل عمران : 75 ] ، ولا شك أن عهد الله على كل مكلف أن لا يكذب على الله ولا يخون في دينه ، لا جرم ذكر هذا الوعيد عقيب ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أنه تعالى ذكر في الآية السابقة خيانتهم في أموال الناس ، ثم ذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وخيانتهم في تعظيم أسمائه حين يحلفون بها كذبا ، ومن الناس من [ ص: 92 ] قال : هذه الآية ابتداء كلام مستقل بنفسه في المنع عن الأيمان الكاذبة ؛ وذلك لأن اللفظ عام والروايات الكثيرة دلت على أنها إنما نزلت في أقوام أقدموا على الأيمان الكاذبة ، وإذا كان كذلك وجب اعتقاد كون هذا الوعيد عاما في حق كل من يفعل هذا الفعل وأنه غير مخصوص باليهود .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اختلفت الروايات في سبب النزول ، فمنهم من خصها باليهود الذين شرح الله أحوالهم في الآيات المتقدمة ، ومنهم من خصها بغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الأول ففيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال عكرمة : إنها نزلت في أحبار اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا بأنه من عند الله لئلا يفوتهم الرشا ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى في سورة البقرة : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنها نزلت في ادعائهم أنه ( ليس علينا في الأميين سبيل ) [ آل عمران : 75 ] كتبوا بأيديهم كتابا في ذلك وحلفوا أنه من عند الله وهو قول الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما الاحتمال الثاني : ففيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنها نزلت في الأشعث بن قيس ، وخصم له في أرض ، اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فقال للرجل : " أقم بينتك " ، فقال الرجل : ليس لي بينة ، فقال للأشعث : " فعليك اليمين " ، فهم الأشعث باليمين فأنزل الله تعالى هذه الآية فنكل الأشعث عن اليمين ورد الأرض إلى الخصم واعترف بالحق ، وهو قول ابن جريج .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال مجاهد : نزلت في رجل حلف يمينا فاجرة في تنفيق سلعته .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : نزلت في عبدان وامرئ القيس اختصما إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أرض ، فتوجه اليمين على امرئ القيس ، فقال : أنظرني إلى الغد ، ثم جاء من الغد وأقر له بالأرض .

                                                                                                                                                                                                                                            والأقرب الحمل على الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            فقوله : ( إن الذين يشترون بعهد الله ) يدخل فيه جميع ما أمر الله به ، ويدخل فيه ما نصب عليه الأدلة ، ويدخل فيه المواثيق المأخوذة من جهة الرسول ، ويدخل فيه ما يلزم الرجل نفسه ؛ لأن كل ذلك من عهد الله الذي يلزم الوفاء به .

                                                                                                                                                                                                                                            قال تعالى : ( ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ) [ التوبة : 75 ] الآية ، وقال : ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ) [ الإسراء : 34 ] ، وقال : ( يوفون بالنذر ) [ الإنسان : 7 ] ، وقال : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) [ الأحزاب : 23 ] ، وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى الشراء ، وذلك لأن المشتري يأخذ شيئا ويعطي شيئا ، فكل واحد من المعطى والمأخوذ ثمن للآخر ، وأما الأيمان فحالها معلوم وهي الحلف التي يؤكد بها الإنسان خبره من وعد ، أو وعيد ، أو إنكار ، أو إثبات .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية