الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1500 (2) باب

                                                                                              كيفية العمل فيها ، وأنها ركوعان في كل ركعة

                                                                                              [ 776 ] عن عائشة قالت : خسفت الشمس في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد ، فقام فكبر ، وصف الناس وراءه ، فاقترأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قراءة طويلة - من حديث ابن عباس : نحو سورة البقرة - ثم كبر فركع ركوعا طويلا ، ثم رفع رأسه فقال : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى ، ثم ركع ركوعا طويلا ، هو أدنى من الركوع الأول ، ثم قال : سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد ، ثم سجد ، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ، حتى استكمل أربع ركعات ، وأربع سجدات ، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف ، ثم قام فخطب الناس ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ، فإذا رأيتموهما فافزعوا إلى الصلاة . وقال أيضا : فصلوا حتى يفرج الله عنكم ، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم ، حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفا من الجنة حين رأيتموني أتقدم ، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضا حين رأيتموني تأخرت ، ورأيت فيها ابن لحي وهو الذي سيب السوائب .

                                                                                              وفي رواية : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث مناديا : الصلاة جامعة ، فاجتمعوا
                                                                                              .

                                                                                              وفي أخرى : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاة الخسوف بقراءته .

                                                                                              وزاد في أخرى : يا أمة محمد ! إن من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته . يا أمة محمد ! والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ، ولضحكتم قليلا ، ألا هل بلغت ؟

                                                                                              وفي أخرى : رفع يديه فقال : اللهم هل بلغت .

                                                                                              رواه أحمد (6 \ 168) ، والبخاري (1046) ، ومسلم (901) (1 و 2 و 3 و 4 و 5) ، وأبو داود (1190) ، والترمذي (561) ، والنسائي (3 \ 127) ، وابن ماجه (1263) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (2) ومن باب : كيفية العمل فيهما

                                                                                              ذهب الجمهور إلى أن صلاة كسوف الشمس ركعتان ، في كل ركعة ركوعان على ما في حديث عائشة رضي الله عنها وما في معناه ، قال أبو عمر : وهذا أصح ما في هذا الباب ، وغيره من الروايات التي خالفته معلولة ضعيفة ، وأما [ ص: 552 ] الأحاديث الآتية بعد هذا التي تدل على أن في كل ركعة ثلاث ركوعات ، أو أربع ركوعات ، أو خمس ركوعات على ما في حديث أبي ، فقد قال بكل حديث منها طائفة من الصحابة وغيرهم ، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن ذلك الاختلاف إنما كان بحسب طول مدة الكسوف وقصرها ، وفي هذا نظر .

                                                                                              وقوله : قام فخطب : دليل لمن قال : من سنتها الخطبة ، وهم : الشافعي وإسحاق والطبري ، وفقهاء أصحاب الحديث ، وخالفهم في ذلك مالك وأبو حنيفة ، وقالا : إن هذه الخطبة إنما كان مقصودها زجر الناس عما قالوا من أن الكسوف إنما كان لموت إبراهيم ، وليخبرهم بما شاهد في هذه الصلاة ; مما اطلع عليه من الجنة والنار .

                                                                                              وقوله : إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى ; أي : دليلان على وجود الحق سبحانه وقهره ، وكمال الإلهية ، وقد خصهما بالذكر ; لما وقع للناس من أنهما يخسفان لموت عظيم ، وهذا إنما صدر عمن لا علم عنده ، ممن ضعف عقه واختل فهمه ، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم جهالتهم ، وتضمن ذلك الرد على من قال بتأثيرات النجوم ، ثم أخبر بالمعنى الذي لأجله يكسفان ; وهو أن الله - تعالى - يخوف بهما عباده . فإن قيل : فأي تخويف في ذلك والكسوف أمر عادي ; بحسب تقابل هذه النيرات وحجب بعضها لبعض ، وذلك يجري مجرى حجب الجسم [ ص: 553 ] الكثيف نور الشمس ، عما يقابله من الأرض ، وذلك لا يحصل به تخويف ؟ قلنا : لا نسلم أن سبب الكسوف ما ادعوه ، ومن أين عرفوا ذلك ؟ بالعقل أم بالنقل ؟ وكل واحد منهما إما بواسطة نظر ، أو بغير واسطة ، ودعوى شيء من ذلك ممنوعة ، وغايتهم أن يقولوا : ذلك مبني على أمور هندسية ورصدية تفضي بسالكها إلى القطع ، ونحن نمنع أيضا ما ذكروه إلى القطع ، وهو أول المسألة ، ولئن سلمنا ذلك جدلا ، لكنا نقول : يحصل بهما تخويف العقلاء من وجوه متعددة ، أوضحها : أن ذلك مذكر بالكسوفات التي تكون بين يدي الساعة ، ويمكن أن يكون ذلك الكسوف منها ، ولذلك قام - صلى الله عليه وسلم - فزعا يخشى أن تقوم الساعة . وكيف لا وقد قال الله عز وجل : فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر [ القيامة :7 - 9 ] ؟ قال أهل التفسير : جمع بينهما في إذهاب نورهما ، وقيل غير ذلك . وأيضا فإن كل ما في هذا العالم علويه وسفليه دليل على نفوذ قدرة الله ، وتمام قهره ، واستغنائه ، وعدم مبالاته ، وذلك كله يوجب عند العلماء بالله خوفه وخشيته ; كما قال - تعالى - : إنما يخشى الله من عباده العلماء [ فاطر : 28] وخص هنا خسوفهما بالتخويف ; لأنهما أمران علويان نادران طارئان عظيمان ، والنادر العظيم مخوف موجع ، بخلاف ما يكثر وقوعه ، فإنه لا يحصل منه ذلك غالبا ، وأيضا فلما وقع فيهما من الغلط الكثير للأمم التي كانت تعبدهما ، ولما وقع للجهال من اعتقاد تأثيرهما .

                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم - : رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتموه : هذه الرؤية رؤية عيان حقيقة ، لا رؤية علم ; بدليل : أنه رأى في الجنة والنار أقواما بأعيانهم ، ونعيما ، وقطفا من عنب ، وتناوله ، وغير ذلك . ولا إحالة في إبقاء هذه الأمور على ظواهرها ، لا سيما على مذاهب أهل السنة في أن الجنة والنار قد خلقتا ووجدتا ; [ ص: 554 ] كما دل عليه الكتاب والسنة ، وذلك أنه راجع إلى أن الله - تعالى - خلق لنبيه - صلى الله عليه وسلم - إدراكا خاصا به ، أدرك به الجنة والنار على حقيقتهما ، كما قد خلق له إدراكا لبيت المقدس ، فطفق يخبرهم عن آياته ، وهو ينظر إليه . ويجوز أن يقال : إن الله - تعالى - مثل له الجنة والنار ، وصورهما له في عرض الحائط ; كما تتمثل صور المرئيات في المرآة ، ويعتضد هذا بما رواه البخاري من حديث أنس في غير حديث الكسوف ، قال - صلى الله عليه وسلم - : لقد رأيت الآن منذ صليت لكم الصلاة الجنة والنار متمثلتين في قبلة هذا الجدار ، وفي لفظ آخر : عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي ، وقال فيه مسلم : إني صورت لي الجنة والنار ، فرأيتهما دون هذا الحائط ، ولا يستبعد هذا من حيث : إن الانطباع في المرآة إنما هو في الأجسام الصقيلة ; لأنا نقول : إن ذلك شرط عادي لا عقلي ، ويجوز أن تنخرق العادة وخصوصا في مدة النبوة ، ولو سلم أن تلك الشروط عقلية ، فيجوز أن تكون تلك الأمور موجودة في جسم الحائط ، ولا يدرك ذلك إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقطف الثمرة : ما يقطف منها ; أي : يقطع ويجتنى ، وهو هنا عنقود من العنب ; كما قد جاء مفسرا في الرواية الأخرى . ويحطم ; أي : يكسر بعضها على بعض كما يفعل البحر . والحطم : الكسر ، ويحتمل أن يريد بذلك : أن بعضها يأكل بعضا ، وبذلك سميت جهنم : الحطمة . والرجل الحطمة : الأكول .

                                                                                              [ ص: 555 ] وابن لحي : اسمه عمرو ، ولحي أبوه ، ابن قمعة بن إلياس ، وهو الذي كناه في الحديث الآخر بأبي ثمامة ، وسماه : بـ عمرو بن مالك . ولحي : لقب مالك ، وقد جاء في رواية أخرى : عمرو بن عامر الخزاعي . والله أعلم . وكان عمرو هذا أول من غير دين إسماعيل ، فنصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ; فيما ذكر ابن إسحاق ، وهو الذي عنى الله بقوله : ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون [ المائدة : 103]

                                                                                              وقد اختلف في تفسير هذه الأشياء ، فالسائبة : الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر ، سيبت فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها ، ثم خلي سبيلها مع أمها على حكمها ، وهي البحيرة بنت السائبة ، وسميت بذلك ; لأنها بحرت أذنها ; أي : شقت شقا واسعا ، وهذا قول ابن إسحاق . وقال غيره : السائبة : هي التي ينذرها الرجل أن يسيبها إن برأ من مرضه ، أو أصاب أمرا يطلبه ، فإذا كان ذلك أسابها فسابت ، لا ينتفع بها .

                                                                                              قال ابن إسحاق : والوصيلة : الشاة إذا أتأمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر ، قالوا : وصلت ، فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث ، إلا أن يموت شيء منها فيشترك فيه ذكورهم وإناثهم ، وقال كثير من أهل اللغة : إن الشاة كانت إذا ولدت أنثى فهي لهم ، وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم ، وإذا ولدت ذكرا وأنثى لم يذبحوا الذكر ، وقالوا : وصلت أخاها ، فيسيبون أخاها ولا ينتفعون به .

                                                                                              والحامي : الفحل إذا ركب ولد ولده ، وقيل : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ; قالوا : حمى ظهره ، فلا يركب ، ولا ينتفع به ، ولا يمنع من ماء ولا كلأ .

                                                                                              [ ص: 556 ] وقوله : بعث مناديا : الصلاة جامعة ، فاجتمعوا ; أي : ينادي ، أو يقول ذلك ، ولهذا الحديث استحسن الشافعي أن يقال ذلك في الخسوف . وهو حجة للجمهور على أبي حنيفة ; إذ قال : لا يجتمع لها ، والكل متفقون على أنه لا يؤذن لها ولا يقام .

                                                                                              وقوله : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهر في صلاة الخسوف بالقراءة ; أخذ بظاهر هذا جماعة من السلف ومحمد بن الحسن وأبو يوسف وأحمد وإسحاق وفقهاء الحديث ، ورواه معن والواقدي عن مالك ; فقالوا : يجهر بها في صلاة كسوف الشمس ، ومشهور قول مالك : الإسرار فيها ، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة والليث وسائر أصحاب الرأي ; متمسكين بقول ابن عباس : أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيها نحو سورة البقرة ، قالوا : ولو جهر لعلم ما قرأ ، وبما خرجه النسائي من حديث سمرة بن جندب ، ووصف صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكسوف قال : فصلى ، فقام كأطول قيام قام بنا في الصلاة قط ، ما نسمع له صوتا . . . ، وذكر الحديث . وتأولوا الحديث الأول على أنه كان في خسوف القمر بالليل ، وخير الطبري بين الجهر والإسرار ، فأعمل الحديثين .

                                                                                              وقوله : يا أمة محمد ! إن من أحد أغير من الله : إن نافية بمعنى ما ، ومن زائدة على اسم إن . وأغير بالنصب : خبر إن النافية ، فإنها تعمل عمل ما عند الحجازيين ، وعلى التميمية : هو مرفوع على أنه خبر المبتدأ الذي هو أحد .

                                                                                              [ ص: 557 ] والغيرة في حقنا راجعة إلى تغير وانزعاج وهيجان يلحق الغيران عندما ينال شيء من حرمه أو محبوباته ; فعمل على صيانتهم ومنعهم . وهذا التغير على الله محال ; هو منزه عن كل تغير ونقص ، لكن لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعهم ، وزجر القاصد إليهم ; أطلق ذلك على الله - تعالى - ; إذ قد زجر وذم ونصب الحدود ، وتوعد بالعقاب الشديد من تعرض لشيء من محارمه ، وهذا من التجوز ، ومن باب تسمية الشيء باسم ما يترتب عليه ، وقد قررنا نحو هذا المعنى في كتاب الإيمان .

                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم - : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا : يعني ما يعلم هو من أمور الآخرة وشدة أهوالها ، ومما أعد في النار من عذابها وأنكالها ، ومما أعد في الجنة من نعيمها وثوابها ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد كان رأى كل ذلك مشاهدة وتحقيقا ، ولذلك كان - صلى الله عليه وسلم - متواصل الأحزان ، قليل الضحك ; جله التبسم .

                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ألا هل بلغت ؟ يعني : ما أمر به بتبليغه من الإنذار والتحذير والتنزيل .




                                                                                              الخدمات العلمية