الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) [ ص: 101 ] اعلم أن المقصود من هذه الآيات تعديد تقرير الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - قطعا لعذرهم وإظهارا لعنادهم ، ومن جملتها ما ذكره الله تعالى في هذه الآية وهو أنه تعالى أخذ الميثاق من الأنبياء الذين آتاهم الكتاب والحكمة بأنهم كلما جاءهم رسول مصدق لما معهم آمنوا به ونصروه ، وأخبر أنهم قبلوا ذلك وحكم تعالى بأن من رجع عن ذلك كان من الفاسقين ، فهذا هو المقصود من الآية فحصل الكلام أنه تعالى أوجب على جميع الأنبياء الإيمان بكل رسول جاء مصدقا لما معهم إلا أن هذه المقدمة الواحدة لا تكفي في إثبات نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما لم يضم إليها مقدمة أخرى ، وهي أن محمدا رسول الله جاء مصدقا لما معهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وعند هذا لقائل أن يقول : هذا إثبات للشيء بنفسه ؛ لأنه إثبات لكونه رسولا بكونه رسولا .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن المراد من كونه رسولا ظهور المعجز عليه ، وحينئذ يسقط هذا السؤال والله أعلم ، ولنرجع إلى تفسير الألفاظ :

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( وإذ أخذ الله ) ، فقال ابن جرير الطبري : معناه واذكروا يا أهل الكتاب إذ أخذ الله ميثاق النبيين ، وقال الزجاج : واذكر يا محمد في القرآن ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله ( ميثاق النبيين ) فاعلم أن المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل وإلى المفعول ، فيحتمل أن يكون الميثاق مأخوذا منهم ، ويحتمل أن يكون مأخوذا لهم من غيرهم ، فلهذا السبب اختلفوا في تفسير هذه الآية على هذين الوجهين .

                                                                                                                                                                                                                                            أما الاحتمال الأول : وهو أنه تعالى أخذ الميثاق منهم في أن يصدق بعضهم بعضا ، وهذا قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس رحمهم الله ، وقيل : إن الميثاق هذا مختص بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهو مروي عن علي وابن عباس وقتادة والسدي رضوان الله عليهم ، واحتج أصحاب هذا القول على صحته من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن قوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) يشعر بأن آخذ الميثاق هو الله تعالى ، والمأخوذ منهم هم النبيون ، فليس في الآية ذكر الأمة ، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة ، ويمكن أن يجاب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن على الوجه الذي قلتم يكون الميثاق مضافا إلى الموثق عليه ، وعلى الوجه الذي قلنا يكون إضافته إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل ، وهو الموثق له ، ولا شك أن إضافة الفعل إلى الفاعل أقوى من إضافته إلى المفعول ، فإن لم يكن فلا أقل من المساواة ، وهو كما يقال : ميثاق الله وعهده ، فيكون التقدير : وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الله للأنبياء على أممهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يراد ميثاق أولاد النبيين ، وهم بنو إسرائيل ، على حذف المضاف ، وهو كما يقال : فعل بكر بن وائل كذا ، وفعل معد بن عدنان كذا ، والمراد أولادهم وقومهم ، فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن يكون المراد من لفظ " النبيين " أهل الكتاب وأطلق هذا اللفظ عليهم تهكما بهم على زعمهم ؛ لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد - عليه الصلاة والسلام - لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه كثيرا ورد في القرآن لفظ النبي والمراد منه أمته ، قال تعالى : ( ياأيها النبي إذا طلقتم النساء ) [ الطلاق : 1 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية لأصحاب هذا القول : ما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي " .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 102 ] الحجة الثالثة : ما نقل عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إن الله تعالى ما بعث آدم - عليه السلام - ومن بعده من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد - عليه الصلاة والسلام - وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، فهذا يمكن نصرة هذا القول به ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الاحتمال الثاني : أن المراد من الآية أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به وأن ينصروه ، وهذا قول كثير من العلماء ، وقد بينا أن اللفظ محتمل له وقد احتجوا على صحته بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، فقال : ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ الله الميثاق منهم يجب عليهم الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند مبعثه ، وكل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يكونون عند مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - من زمرة الأموات ، والميت لا يكون مكلفا ، فلما كان الذين أخذ الميثاق عليهم يجب عليهم الإيمان بمحمد - عليه السلام - عند مبعثه ولا يمكن إيجاب الإيمان على الأنبياء عند مبعث محمد عليه السلام ، علمنا أن الذين أخذ الميثاق عليهم ليسوا هم النبيين بل هم أمم النبيين ، قال : ومما يؤكد هذا أنه تعالى حكم على الذين أخذ عليهم الميثاق أنهم لو تولوا لكانوا فاسقين ، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء - عليهم السلام - وإنما يليق بالأمم ، أجاب القفال - رحمه الله - فقال : لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام ، ونظيره قوله تعالى : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) [ الزمر : 65 ] ، وقد علم الله تعالى أنه لا يشرك قط ولكن خرج هذا الكلام على سبيل التقدير والفرض فكذا هاهنا ، وقال : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 44 - 46 ] ، وقال في صفة الملائكة : ( ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين ) [ الأنبياء : 21 ] مع أنه تعالى أخبر عنهم بأنهم لا يسبقونه بالقول وبأنهم يخافون ربهم من فوقهم ، فكل ذلك خرج على سبيل الفرض ، والتقدير فكذا هاهنا ، ونقول : إنه سماهم فاسقين على تقدير التولي فإن اسم الفسق ليس أقبح من اسم الشرك ، وقد ذكر تعالى ذلك على سبيل الفرض ، والتقدير في قوله : ( لئن أشركت ليحبطن عملك ) ، فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية : أن المقصود من هذه الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا كان الميثاق مأخوذا عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذا على الأنبياء عليهم السلام ، وقد أجيب عن ذلك بأن درجات الأنبياء عليهم السلام أعلى وأشرف من درجات الأمم ، فإذا دلت هذه الآية على أن الله تعالى أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد - عليه السلام - لو كانوا في الأحياء ، وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين ، فلأن يكون الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - واجبا على أممهم لو كان ذلك أولى ، فكان صرف هذا الميثاق إلى الأنبياء أقوى في تحصيل المطلوب من هذا الوجه .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة : ما روي عن ابن عباس أنه قيل له : إن أصحاب عبد الله يقرءون : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) [ آل عمران : 187 ] ، ونحن نقرأ ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) ، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة : أن هذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى : ( يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40] ، وبقوله تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس [ ص: 103 ] ولا تكتمونه ) [ آل عمران : 187 ] ، فهذا جملة ما قيل في هذا الموضوع ، والله أعلم بمراده .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية