الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن الإيمان بمحمد - عليه الصلاة والسلام - شرع شرعه الله وأوجبه على جميع من مضى من الأنبياء والأمم ، لزم أن كل من كره ذلك فإنه يكون طالبا دينا غير دين الله ، فلهذا قال بعده : ( أفغير دين الله يبغون ) . وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حفص عن عاصم " يبغون " و " يرجعون " بالياء المنقطة من تحتها ، لوجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : ردا لهذا إلى قوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) [ آل عمران : 82 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه تعالى إنما ذكر حكاية أخذ الميثاق حتى يبين أن اليهود والنصارى يلزمهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فلما أصروا على كفرهم قال على جهة الاستنكار : ( أفغير دين الله يبغون ) ، وقرأ أبو عمرو " تبغون " بالتاء خطابا لليهود وغيرهم من الكفار و " يرجعون " [ ص: 107 ] بالياء ليرجع إلى جميع المكلفين المذكورين في قوله : ( وله أسلم من في السماوات والأرض ) ، وقرأ الباقون فيهما بالتاء على الخطاب ؛ لأن ما قبله خطاب كقوله : ( أأقررتم وأخذتم ) ، وأيضا فلا يبعد أن يقال للمسلم والكافر ولكل أحد : أفغير دين الله تبغون مع علمكم بأنه أسلم له من في السماوات والأرض ، وأن مرجعكم إليه ، وهو كقوله : ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ) [ آل عمران : 101 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الهمزة للاستفهام والمراد استنكار أن يفعلوا ذلك أو تقرير أنهم يفعلونه ، وموضع الهمزة هو لفظة " يبغون " تقديره : أيبغون غير دين الله ؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث ، إلا أنه تعالى قدم المفعول الذي هو ( غير دين الله ) على فعله ؛ لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود الباطل ، وأما الفاء فلعطف جملة على جملة ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : التقدير : فأولئك هم الفاسقون ، فغير دين الله يبغون .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه لو قيل أوغير دين الله يبغون جاز إلا أن في الفاء فائدة زائدة كأنه قيل : أفبعد أخذ هذا الميثاق المؤكد بهذه التأكيدات البليغة تبغون ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : روي أن فريقين من أهل الكتاب اختصموا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم عليه السلام ، وكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به ، فقال عليه الصلاة والسلام : كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم عليه السلام ، فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت هذه الآية ، ويبعد عندي حمل هذه الآية على هذا السبب ؛ لأن على هذا التقدير تكون هذه الآية منقطعة عما قبلها ، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها ، فالوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم وهم كانوا عارفين بذلك ، فقد كانوا عالمين بصدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ، فلم يبق لكفرهم سبب إلا مجرد العداوة والحسد فصاروا كإبليس الذي دعاه الحسد إلى الكفر ، فأعلمهم الله تعالى أنهم متى كانوا طالبين دينا غير دين الله ، ومعبودا سوى الله سبحانه .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية