الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 532 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الزخرف

هذه السورة مكية بإجماع من أهل العلم.

قوله عز وجل:

حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم

تقدم القول في الحروف في أوائل السور، وقوله تعالى: "والكتاب" خفض بواو القسم. و "المبين": يحتمل أن يكون من "أبان" الذي هو بمعنى "بان"، أي: ظهر، فلا يحتاج إلى مفعول، ويحتمل أن يكون معدى من "بان"، فهذا لابد من مفعول تقديره: المبين الهدى أو الشرع ونحوه.

وقوله تعالى: إنا جعلناه معناه: سميناه وصيرناه، وهو إخبار عليه وقع القسم، والضمير في: "جعلناه" عائد على: "الكتاب"، و "عربيا": معناه: بلسانكم لئلا يبقى لكم عذر، وقوله تعالى: لعلكم : ترج بحسب معتقد البشر، أي: إذا أبصر المبصر من البشر هذا الفعل منا ترجى منه أن يعقل الكلام ويفهم.

وقوله تعالى: "وإنه" عطف على قوله تعالى: إنا جعلناه ، وهذا الإخبار الثاني واقع أيضا تحت القسم، و "أم الكتاب": اللوح المحفوظ، وهذا فيه تشريف للقرآن [ ص: 533 ] وترفيع، واختلف المتأولون، كيف هو في "أم الكتاب"؟ فقال قتادة وعكرمة والسدي وعطية بن سعيد : القرآن بأجمعه فيه منسوخ، ومنه كان جبريل صلى الله عليه وسلم ينزل، وهنالك هو علي حكيم. وقال جمهور الناس: إنما في اللوح المحفوظ ذكره ودرجته ومكانته من العلو والحكمة، وقرأ جمهور الناس: "في أم الكتاب" بضم الهمزة، وقرأها بكسر الهمزة يوسف والي العراق وعيسى بن عمر .

وقوله تعالى: "أفنضرب"، بمعنى: أفنترك، تقول العرب: أضربت عن كذا وضربت إذا أعرضت وتركته، و "الذكر" هو الدعاء إلى الله تعالى والتذكير بعذابه والتخويف من عقابه، وقال أبو صالح : "الذكر" هنا هو العذاب نفسه، وقال مجاهد والضحاك : "الذكر": القرآن، وقوله تعالى: "صفحا" انتصابه كانتصاب صنع الله ، فيحتمل أن يكون بمعنى العفو والغفر للذنب، فكأنه تعالى يقول: أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم وغفرا لإجرامكم أن كنتم، أو من أجل أن كنتم قوما مسرفين؟ هذا لا يصلح، وهذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، ويحتمل قوله تعالى: "صفحا" أن يكون بمعنى: مغفولا عنه، أي نتركه يمر لا تؤخذون بقبوله ولا بتدبره، ولا تنبهون عليه، وهذا المعنى نظير قول الشاعر:


تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضى ... ويصدع قلبي أن يهب هبوبها



أي: تمر مغفولا عنها، فكأن هذا المعنى: أفنترككم سدى؟ وهذا هو منحى قتادة وغيره، ومن اللفظة قول كثير:

[ ص: 534 ]

صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ...     فمن مل منها ذلك الوصل ملت



وقرأ السميط بن عمرو ، والسدوسي: "صفحا" بضم الصاد.

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : "إن كنتم" بكسر الألف، وهو جزاء دل ما تقدم على جوابه، وقرأ الباقون، والأعرج ، وقتادة : "أن كنتم" بفتح الألف، بمعنى: من أجل أن كنتم، وفي قراءة ابن مسعود : "إذ كنتم"، و"الإسراف" في الآية: هو الكفر والضلال البعيد في عبادة غير الله تعالى والتشريك به.

وقوله تعالى: وكم أرسلنا من نبي في الأولين الآيات تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم، وذكره أسوة له ووعيد لهم وتهديد بأن يصيبهم ما أصاب من هو أشد بطشا منهم، و"الأولون": هم الأمم الماضية، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والضمير في قوله تعالى: كانوا به يستهزئون ظاهره العموم، والمراد به: الخصوص فيمن استهزءوا، وإلا فقد كان في الأولين من لم يستهزئ، والضمير في: "منهم" عائد على قريش، وقوله تعالى: ومضى مثل الأولين أي: سلف أمرهم وسنتهم، وصاروا عبرة غابر الدهر.

وقوله تعالى: ولئن سألتهم الآية... ابتداء احتجاج على قريش يوجب عليهم التناقض في أمرهم، وذلك أنهم يقرون أن الخالق الموجد لهم وللسماوات والأرض هو الله تعالى، وهم مع ذلك يعبدون أصناما ويدعونها آلهتهم، ومقتضى جواب قريش أن يقولوا: "خلقهن الله"، فلما ذكر تعالى المعنى، جاءت العبارة عن الله بـ"العزيز العليم" ليكون ذلك توطئة لما عدد بعد من أوصافه التي ابتدأ الإخبار بها وقطعها من الكلام الذي حكى معناه عن قريش.

التالي السابق


الخدمات العلمية