الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          803 حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي قال أنبأنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف عاما فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أنس بن مالك واختلف أهل العلم في المعتكف إذا قطع اعتكافه قبل أن يتمه على ما نوى فقال بعض أهل العلم إذا نقض اعتكافه وجب عليه القضاء واحتجوا بالحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من اعتكافه فاعتكف عشرا من شوال وهو قول مالك وقال بعضهم إن لم يكن عليه نذر اعتكاف أو شيء أوجبه على نفسه وكان متطوعا فخرج فليس عليه أن يقضي إلا أن يحب ذلك اختيارا منه ولا يجب ذلك عليه وهو قول الشافعي قال الشافعي فكل عمل لك أن لا تدخل فيه فإذا دخلت فيه فخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة وفي الباب عن أبي هريرة

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب ما جاء في الاعتكاف إذا خرج منه ) قد عقد الترمذي فيما تقدم باب الاعتكاف ثم عقد عدة أبواب لا تعلق لها بالاعتكاف ثم عقد هذا الباب وهذا ليس بمستحسن ، وكان له أن يسوق أبواب الاعتكاف كلها متوالية متناسقة .

                                                                                                          قوله : ( فلم يعتكف عاما ) قال القاري : لعله كان لعذر ، انتهى .

                                                                                                          قلت : الظاهر أن عدم اعتكافه كان لعذر السفر ، يدل عليه ما أخرجه النسائي واللفظ له وأبو داود وصححه ابن حبان وغيره من حديث أبي بن كعب أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فسافر عاما فلم يعتكف ، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ، كذا في الفتح ( فلما كان العام المقبل ) اسم فاعل من الإقبال ( اعتكف عشرين ) بكسر العين والراء وقيل بفتحهما على التثنية ، قال في اللمعات : أي اهتماما ودلالة على التأكيد أنما فات من النوافل المؤقتة يقضى ، انتهى . ووجه المناسبة بالترجمة أنه -صلى الله عليه وسلم- لما قضى الاعتكاف لمجرد النية وكان لم يشرع فيه بعد فقضاؤه بعد الشروع أولى بالثبوت ، كذا في بعض الحواشي .

                                                                                                          قوله : " هذا حديث حسن غريب صحيح من حديث أنس " وأخرجه النسائي وأبو داود من حديث أبي بن كعب وصححه ابن حبان وغيره كما تقدم .

                                                                                                          قوله : ( قبل أن يتمه على ما نوى ) أي قبل إتمامه على قدر ما نوى ، ( فقال بعض أهل [ ص: 434 ] العلم : إذا نقض اعتكافه وجب ، عليه القضاء واحتجوا بالحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من اعتكافه فاعتكف عشرا من شوال ) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- ، وفي حديث البخاري : فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشرا من شوال ، ولفظ ( خرج من اعتكافه ) ليس في واحد من هذه الكتب الخمسة ولم أقف على من أخرج الحديث بهذا اللفظ " وهو قول مالك " وبه قال الحنفية ( وهو قول الشافعي ) وأجاب الشافعي ومن تبعه عن حديث عائشة المذكور بأن قضاءه -صلى الله عليه وسلم- للاعتكاف كان على طريق الاستحباب ؛ لأنه كان إذا عمل عملا أثبته ، ولهذا لم ينقل أن نساءه اعتكفن معه في شوال ( وكل عمل ) مبتدأ ( لك أن لا تدخل فيه ) صفة للمبتدأ أو هو كناية عن أن يكون نفلا .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أبي هريرة ) لينظر من أخرجه .

                                                                                                          قوله : ( عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة ) كذا وقع في النسخ الموجودة عندنا عن عروة وعمرة عن عائشة بالجمع بينهما ، والصواب أن يكون عن عروة عن عمرة عن عائشة ، يدل عليه قول الترمذي الآتي : وهكذا رواه غير واحد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عروة عن عمرة عن عائشة .

                                                                                                          وقال الحافظ في الفتح : ورواه مالك يعني عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عمرة . قال أبو داود وغيره : لم يتابع عليه ، وذكر [ ص: 435 ] البخاري أن عبيد الله بن عمر تابع مالكا ، وذكر الدارقطني أن أبا أويس رواه كذلك عن الزهري ، انتهى ما في الفتح .

                                                                                                          ( أدنى ) أي قرب ( إلي ) بتشديد الياء ( رأسه ) زاد الشيخان في روايتهما : وهو في المسجد ( فأرجله ) من الترجيل وهو تسريح الشعر وهو استعمال المشط في الرأس أي أمشطه وأدهنه . قال الحافظ في الفتح : وفي الحديث جواز التنظيف والتطيب والغسل والحلق والتزين إلحاقا بالترجل . والجمهور على أنه لا يكره فيه إلا ما يكره في المسجد . وعن مالك : تكره فيه الصنائع والحرف حتى طلب العلم ، انتهى .

                                                                                                          وقال ابن الملك : فيه دليل على أن المعتكف لو أخرج بعض أجزائه من المسجد لا يبطل اعتكافه ( وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان ) فسرها الزهري بالبول والغائط وقد اتفقوا على استثنائهما ، واختلفوا في غيرهما من الحاجات كالأكل والشرب ، ولو خرج لهما فتوضأ خارج المسجد لم يبطل ، ويلتحق بهما القيء والفصد لمن احتاج إليه .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن صحيح ) وأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه .

                                                                                                          قوله : ( والصحيح عن عروة وعمرة عن عائشة ، هكذا روى الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عروة وعمرة عن عائشة ) روى البخاري في صحيحه قال : حدثنا قتيبة ، حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عروة وعن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة إلخ . قال الحافظ في الفتح : قوله : عن عروة وعمرة كذا في رواية الليث جمع بينهما ورواه يونس عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة وحده ، ورواه مالك عنه عن عروة عن عمرة إلى آخر ما نقلنا عبارته فيما تقدم ، ثم قال : واتفقوا على أن الصواب قول الليث وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة ، وأن ذكر عمرة في رواة مالك من المزيد في متصل الأسانيد ، وقد رواه بعضهم عن مالك فوافق الليث . انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          [ ص: 436 ] قوله : ( وأجمعوا على هذا أنه يخرج لقضاء حاجته للغائط والبول ) وكذا لغسل الجنابة إن كان لا يمكنه الاغتسال في المسجد ( فرأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرهم أن يعود المريض ويشيع الجنازة ويشهد الجمعة إذا اشترط ذلك ) أي في ابتداء اعتكافه ( وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك ) وهو قول إسحاق كما بينه الترمذي فيما بعد . قال الحافظ في الفتح : وقال الثوري والشافعي وإسحاق : إن شرط شيئا من ذلك -يعني عيادة المريض وتشييع الجنازة وشهود الجمعة- لم يبطل اعتكافه بفعله ، وهو رواية عن أحمد ، انتهى .

                                                                                                          قلت : قولهم هذا محتاج إلى دليل صحيح ( وقال بعضهم : ليس له أن يفعل شيئا من هذا ) واحتجوا بما روى أبو داود من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا ما لا بد منه ، ولا اعتكاف إلا بصوم ، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع . قال أبو داود : غير عبد الرحمن لا يقول فيه السنة . وقال المنذري في مختصره : وعبد الرحمن بن إسحاق أخرج له مسلم ووثقه يحيى بن معين وأثنى عليه غيره ، وتكلم فيه بعضهم ، انتهى .

                                                                                                          وقال الحافظ في بلوغ المرام بعد ذكر هذا الحديث : لا بأس برجاله ، إلا أن الراجح وقف آخره . وقال في فتح الباري : وجزم الدارقطني بأن القدر الذي من حديث عائشة قولها : لا يخرج إلا لحاجة ، وما عداه ممن دونها ، وروينا عن علي والنخعي والحسن البصري : إن شهد المعتكف جنازة أو عاد مريضا أو خرج للجمعة بطل اعتكافه ، وبه قال الكوفيون وابن المنذر إلا في الجمعة ، انتهى . يعني أن الكوفيين يقولون : إذا خرج المعتكف للجمعة لا يبطل اعتكافه ، وإن شهد الجنازة أو عاد مريضا يبطل .

                                                                                                          قال صاحب شرح الوقاية : ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان أو للجمعة وقت الزوال ، انتهى . وقال الأمير اليماني في سبل السلام في شرح حديث عائشة قالت : السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا إلخ ما لفظه : فيه دلالة على أنه لا يخرج المعتكف لشيء مما عينته هذه الرواية وأيضا لا يخرج لشهود الجمعة ، وأنه إن فعل ذلك بطل اعتكافه ، وفي المسألة خلاف كبير ، ولكن الدليل قائم على ما ذكرناه ، انتهى كلام الأمير .

                                                                                                          قلت : ويؤيده حديث عائشة : أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان لا يسأل عن المريض إلا مارا في اعتكافه ولا يعرج عليه ، أخرجه أبو داود ، وفيه ليث بن أبي سليم وهو [ ص: 437 ] ضعيف ، والصحيح عن عائشة من فعلها ، وكذلك أخرجه مسلم وغيره ، وقال ابن حزم : صح ذلك عن علي ، كذا في التلخيص ( ورأوا للمعتكف إذا كان في مصر يجمع فيه لا يعتكف إلا في المسجد الجامع إلخ ) هذا هو المختار عندي ، والله تعالى أعلم .



                                                                                                          الخدمات العلمية