الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وهذا الذي قاله القاضي من نفي التناهي والمماسة والمحاذاة فيه نزاع مشهور، وقد رجع هو إلى إثبات الحد كما تقدم حكاية قوله.

والتحقيق أن قولهم: ما ستره الحجاب فالحجاب أكبر منه، ليس بسديد، سواء كان الحجاب يحجب الشيء عن أن يراه غيره، أو يحجبه أن يرى غيره، والحجاب في حق الله [ ص: 154 ] لا يصح إلا بالمعنى الثاني، فإن الله عز وجل لا يحجبه شيء عن أن يرى عباده ويشهدهم، وإنما يحجب العباد عن أن يروه، وأن يحرق سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، والعبد يصح في حقه الحجاب بالمعنيين، ومع هذا، فلا يشترط أن يكون الحجاب أكبر، فإن الشيء الصغير إذا وضع قريبا من عينه حجبه أن يرى شيئا من الأشياء، والشيء الكبير إذا كان بعيدا من الرائي حجبه ما هو أصغر منه بكثير، كما يحجب الشمس سحابة وإن كانت الشمس بقدرها مرات لا يعلمها إلا الله تعالى، والإنسان يكون محجوبا عن رؤية السماء بسقف بيته، بحيث إذا زال عاين السماء، وهي بقدر السقف أضعافا مضاعفة، وذلك أن الحجاب كلما قرب إلى الرائي كان أصغر من البعيد عنه، لأنه على قدره يكون لا على قدر ما يحجب العبد عن رؤيته.

فحجب الرب الذي يحجب العباد عن مشاهدته، أو أن يحرق سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه، من أين يجب أن يكون أكبر منه؟.

قالوا: لا يصح أن يكون المحدث ولا القديم محجوبا بشيء من سواتر الأجسام المغطية الكثيفة المحيطة، وإنما [ ص: 155 ] يقال لهذه الأجسام الساترة أنها حجاب عن رؤية المحدث لما رآه من أجل أن المنع من الرؤية يحدث عنده، وعلى هذا ما يقوله من أن الباري لا نراه في الدنيا لأنا في حجاب على طريق المجاز، وإنما المانع من رؤيته ما يحدثه من المنع، وإنما كان كذلك لأن المانع من معرفة الشيء أو رؤيته ومعاينة ما يمنع من وجود معرفته ومعاينته، وما يمنع من ذلك فهو الذي يضاد وجوده، وذلك لا يصح إلا في العرضين المتضادين المتعاقبين، ولا يصح أن يكون الجسم منعا ولا مانعا من عرض أصلا، لأنه لا يصح أن يكون بين العرض والجسم تناف.

وقد أجاب القاضي عن هذا بأن هذا لا يمنع من إطلاق اسم الحجاب على القديم سبحانه، كما لا يمنع من إطلاقه على غيره، وإن كان هذا المعنى الذي ذكره موجودا فيه.

والتحقيق أن هذا الكلام من أغاليط هؤلاء المتكلمين، [ ص: 156 ] وذلك أن تسمية الأجسام الساترة حجبا أمر معلوم بالاضطرار من اللغة، متفق عليه بين أهلها، ومنه تسمية حاجب الأمير حاجبا، وحاجب العين حاجبا، فمنع كون الجسم حاجبا ومحجوبا جحد لما يعلم بالضرورة من اللغة.

وأيضا: فلفظ الحجب والستر متقاربان، فقوله: إنما يقال لهذه الأجسام الساترة: إنها حجاب لكذا إثبات لكونها ساترة، فكيف يثبت أنها ساترة ويمنع أنها حاجبة.

وأيضا فالعلم أن الأجسام تحجب الإنسان أن يرى ما وراءها هو من العلوم الحسية، فإن الحجاب الحائل بين العبد وبين المرئي يمنع رؤيته.

التالي السابق


الخدمات العلمية