الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما حذر المؤمنين من إضلال الكفار ومن تلبيساتهم في الآية الأولى أمر المؤمنين في هذه الآيات بمجامع الطاعات ، ومعاقد الخيرات ، فأمرهم أولا : بتقوى الله وهو قوله : ( اتقوا الله ) وثانيا : بالاعتصام بحبل الله ، وهو قوله : ( واعتصموا بحبل الله ) وثالثا : بذكر نعم الله وهو قوله : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) والسبب في هذا الترتيب أن فعل الإنسان لا بد وأن يكون معللا ، إما بالرهبة وإما بالرغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة ، لأن دفع الضرر مقدم على جلب النفع ، فقوله : ( اتقوا الله حق تقاته ) إشارة إلى التخويف من عقاب الله تعالى ، ثم جعله سببا للأمر بالتمسك بدين الله والاعتصام بحبل الله ، ثم أردفه بالرغبة ، وهي [ ص: 141 ] قوله : ( واذكروا نعمة الله عليكم ) فكأنه قال : خوف عقاب الله يوجب ذلك ، وكثرة نعم الله توجب ذلك فلم تبق جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله ووجوب طاعتكم لحكم الله ، فظهر بما ذكرناه أن الأمور الثلاثة المذكورة في هذه الآية مرتبة على أحسن الوجوه ، ولنرجع إلى التفسير .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( اتقوا الله حق تقاته ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال بعضهم : هذه الآية منسوخة وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين لأن حق تقاته : أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى ، والعباد لا طاقة لهم بذلك ، فأنزل الله تعالى بعد هذه ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ التغابن : 16 ] ونسخت هذه الآية أولها ولم ينسخ آخرها وهو قوله : ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وزعم جمهور المحققين أن القول بهذا النسخ باطل واحتجوا عليه من وجوه . الأول : ما روي عن معاذ أنه عليه السلام قال له : " هل تدري ما حق الله على العباد ؟ قال الله ورسوله أعلم ، قال : هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " وهذا لا يجوز أن ينسخ . الثاني : أن معنى قوله : ( اتقوا الله حق تقاته ) أي كما يحق أن يتقى ، وذلك بأن يجتنب جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ لأنه إباحة لبعض المعاصي ، وإذا كان كذلك صار معنى هذا ومعنى قوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) [ التغابن : 16 ] واحدا لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته ، ولا يجوز أن يكون المراد بقوله : ( حق تقاته ) ما لا يستطاع من التقوى ، لأن الله سبحانه أخبر أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، والوسع دون الطاقة ، ونظير هذه الآية قوله : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) [ الحج : 78 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : أليس أنه تعالى قال : ( وما قدروا الله حق قدره ) [ الأنعام : 91 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : سنبين في تفسير هذه الآية أنها جاءت في القرآن في ثلاثة مواضع ، وكلها في صفة الكفار لا في صفة المسلمين ; أما الذين قالوا : إن المراد هو أن يطاع فلا يعصى فهذا صحيح ، والذي يصدر عن الإنسان على سبيل السهو والنسيان فغير قادح فيه لأن التكليف مرفوع في هذه الأوقات وكذلك قوله : أن يشكر فلا يكفر ، لأن ذلك واجب عليه عند خطور نعم الله بالبال ، فأما عند السهو فلا يجب ، وكذلك قوله : أن يذكر فلا ينسى ، فإن هذا إنما يجب عند الدعاء والعبادة وكل ذلك مما لا يطاق ، فلا وجه لما ظنوه أنه منسوخ .

                                                                                                                                                                                                                                            قال المصنف رضي الله تعالى عنه ، أقول : للأولين أن يقرروا قولهم من وجهين . الأول : أن كنه الإلهية غير معلوم للخلق ، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوما للخلق ، وإذا لم يحصل العلم بذلك لم يحصل الخوف اللائق بذلك فلم يحصل الاتقاء اللائق به . الثاني : أنهم أمروا بالاتقاء المغلظ والمخفف معا فنسخ المغلظ وبقي المخفف ، وقيل : إن هذا باطل ، لأن الواجب عليه أن يتقي ما أمكن والنسخ إنما يدخل في الواجبات لا في النفي ، لأنه يوجب رفع الحجر عما يقتضي أن يكون الإنسان محجورا عنه وإنه غير جائز .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قوله تعالى : ( حق تقاته ) أي كما يجب أن يتقى ، يدل عليه قوله تعالى : ( حق اليقين ) [ الواقعة : 95 ] ويقال : هو الرجل حقا ، ومنه قوله عليه السلام : "

                                                                                                                                                                                                                                            أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب

                                                                                                                                                                                                                                            " وعن علي رضي الله عنه أنه قال :

                                                                                                                                                                                                                                            أنا علي لا كذب     أنا ابن عبد المطلب

                                                                                                                                                                                                                                            ، والتقى اسم الفعل من قولك اتقيت ، كما أن الهدى اسم الفعل من قولك اهتديت .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 142 ] أما قوله تعالى : ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) فلفظ النهي واقع على الموت ، لكن المقصود الأمر بالإقامة على الإسلام ، وذلك لأنه لما كان يمكنهم الثبات على الإسلام حتى إذا أتاهم الموت أتاهم وهم على الإسلام ، صار الموت على الإسلام بمنزلة ما قد دخل في إمكانهم ، ومضى الكلام في هذا عند قوله : ( إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) [ البقرة : 132 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية