الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في ترك الوضوء مما غيرت النار

                                                                                                          80 حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل سمع جابرا قال سفيان وحدثنا محمد بن المنكدر عن جابر قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه فدخل على امرأة من الأنصار فذبحت له شاة فأكل وأتته بقناع من رطب فأكل منه ثم توضأ للظهر وصلى ثم انصرف فأتته بعلالة من علالة الشاة فأكل ثم صلى العصر ولم يتوضأ قال وفي الباب عن أبي بكر الصديق وابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود وأبي رافع وأم الحكم وعمرو بن أمية وأم عامر وسويد بن النعمان وأم سلمة قال أبو عيسى ولا يصح حديث أبي بكر في هذا الباب من قبل إسناده إنما رواه حسام بن مصك عن ابن سيرين عن ابن عباس عن أبي بكر الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحيح إنما هو عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا رواه الحفاظ وروي من غير وجه عن ابن سيرين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه عطاء بن يسار وعكرمة ومحمد بن عمرو بن عطاء وعلي بن عبد الله بن عباس وغير واحد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا فيه عن أبي بكر الصديق وهذا أصح قال أبو عيسى والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم مثل سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق رأوا ترك الوضوء مما مست النار وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن هذا الحديث ناسخ للحديث الأول حديث الوضوء مما مست النار

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( وأتته بقناع ) بكسر القاف قال الجزري في النهاية : القناع هو الطبق الذي يؤكل عليه ( فأتته بعلالة ) بضم العين وهي البقية من كل شيء ( فأكل ثم صلى العصر ولم يتوضأ ) هذا دليل على أن الوضوء مما مست النار ليس بواجب .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أبي بكر الصديق ) قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم نهش من كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ . أخرجه أبو يعلى والبزار وفيه هشام بن مصك وقد أجمعوا على ضعفه كذا في مجمع الزوائد .

                                                                                                          ( ولا يصح حديث أبي بكر في هذا من قبل إسناده إنما رواه حسام بن مصك ) بكسر الميم وفتح المهملة بعدها كاف مثقلة الأزدي أبو سهل البصري ضعيف يكاد أن يترك .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أبي هريرة وابن مسعود وأبي رافع وأم الحكم وعمرو بن أمية وأم عامر وسويد بن النعمان وأم سلمة ) .

                                                                                                          أما حديث أبي هريرة فأخرجه البزار بلفظ : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ من أثوار أقط ثم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ .

                                                                                                          [ ص: 218 ] قال في مجمع الزوائد : هو في الصحيح خلا قوله ثم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ البزار . انتهى . وعن أبي هريرة أيضا قال : نشلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتفا من قدر العباس فأكلها وقام يصلي ولم يتوضأ . أخرجه أبو يعلى ، قال في مجمع الزوائد : فيه محمد بن عمرو عن أبي سلمة وهو حديث حسن . انتهى .

                                                                                                          وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أحمد وأبو يعلى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل اللحم ثم يقوم إلى الصلاة ولا يمس ماء . قال في مجمع الزوائد رجاله موثقون .

                                                                                                          وأما حديث أبي رافع فأخرجه مسلم بلفظ : قال أشهد لقد كنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الشاة ثم صلى ولم يتوضأ . وله حديث آخر في هذا الباب أخرجه أحمد ذكره صاحب المشكاة .

                                                                                                          وأما حديث أم الحكم فلم أقف عليه .

                                                                                                          وأما حديث عمرو بن أمية فأخرجه الشيخان .

                                                                                                          وأما حديث أم عامر فأخرجه الطبراني في الكبير .

                                                                                                          وأما حديث سويد بن النعمان فأخرجه البخاري .

                                                                                                          وأما حديث أم سلمة فأخرجه أحمد بلفظ : إنها قالت قربت إلى النبي صلى الله عليه وسلم جنبا مشويا فأكل منه ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ .

                                                                                                          قوله : ( والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم إلخ ) وعليه كان عمل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، قال البخاري في صحيحه : وأكل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لحما فلم يتوضئوا . قال الحافظ في الفتح : وصله الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن من طريق سليمان بن عامر قال : رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مسته النار ولم يتوضئوا . ورويناه من طرق كثيرة عن جابر مرفوعا وموقوفا على الثلاثة مفرقا ومجموعا .

                                                                                                          [ ص: 219 ] قوله : ( رأوا ترك الوضوء مما مست النار ) أي اعتقدوه ( وهذا آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن ) بتشديد النون من الحروف المشبهة بالفعل ( هذا الحديث ناسخ للحديث الأول حديث الوضوء مما مست النار ) قوله : ( حديث الوضوء مما مست النار ) بدل من قوله ( الحديث الأول ) .

                                                                                                          وكان الزهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مست النار ناسخ لأحاديث الإباحة لأن الإباحة سابقة .

                                                                                                          واعترض عليه بحديث جابر قال : كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار . رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ، لكن قال أبو داود وغيره إن المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا مقابل النهي ، وإن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ . فيحتمل أن تكون هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مست النار وأن وضوءه لصلاة الظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة ، وحكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال : لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم فرجحنا به أحد الجانبين ، وارتضى النووي بهذا في شرح المهذب ، وبهذا تظهر حكمة تصدير البخاري حديث الباب ، يعني حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ ، بالأثر المنقول عن الخلفاء الثلاثة . قال النووي : كان الخلاف فيه معروفا بين الصحابة والتابعين ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار إلا ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل .

                                                                                                          وجمع الخطابي بوجه آخر وهو أن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب لا على الوجوب كذا في الفتح .

                                                                                                          قلت : واختاره صاحب المنتقى فقال : هذه النصوص - يعني التي فيها ترك الوضوء مما مست النار - إنما تنفي الإيجاب لا الاستحباب ، ولهذا قال الذي سأله أنتوضأ من لحوم الغنم قال [ ص: 220 ] إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ . ولولا أن الوضوء من ذلك مستحبا لما أذن فيه لأنه إسراف وتضييع للماء بغير فائدة . انتهى . واختار الشوكاني أن حديث الأمر بالوضوء مما مست النار ليس بمنسوخ فقال في النيل : وأجاب الأولون يعني الذين قالوا بترك الوضوء مما مست النار عن ذلك يعني عن حديث الأمر بالوضوء مما مست النار بجوابين :

                                                                                                          الأول : أنه منسوخ بحديث جابر .

                                                                                                          الثاني : أن المراد بالوضوء غسل الفم والكفين .

                                                                                                          قال : ولا يخفاك أن الجواب الأول إنما يتم بعد تسليم أن فعله صلى الله عليه وسلم يعارض القول الخاص بنا وينسخه ، والمتقرر في الأصول خلافه .

                                                                                                          وأما الجواب الثاني فقد تقرر أن الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها وحقيقة الوضوء الشرعية هي غسل جميع الأعضاء التي تغسل للوضوء فلا تخالف هذه الحقيقة إلا لدليل .

                                                                                                          وأما دعوى الإجماع فهي من الدعاوى التي لا يهابها طالب الحق ولا يحول بينه وبين مراده منه ، نعم الأحاديث الواردة في ترك الوضوء من لحوم الغنم مخصصة لعموم الأمر بالوضوء مما مست النار ، وما عدا لحوم الغنم داخل تحت ذلك العموم . انتهى كلام الشوكاني .




                                                                                                          الخدمات العلمية