الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 5 ] ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) فيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ نافع وابن عامر ( سارعوا ) بغير واو ، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة والشام ، والباقون بالواو ، وكذلك هو في مصاحف مكة والعراق ومصحف عثمان ، فمن قرأ بالواو عطفها على ما قبلها والتقدير أطيعوا الله والرسول وسارعوا ، ومن ترك الواو فلأنه جعل قوله : ( سارعوا ) وقوله : ( قل أطيعوا الله ) [آل عمران : 32] كالشيء الواحد ، ولقرب كل واحد منها من الآخر في المعنى أسقط العاطف .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : روي عن الكسائي الإمالة في ( سارعوا ) و ( أولئك يسارعون ) و ( نسارع ) وذلك جائز لمكان الراء المسكورة ، ويمنع كما المفتوحة الإمالة ، كذلك المسكورة يميلها .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قالوا : في الكلام حذف والمعنى : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم ولا شك أن الموجب للمغفرة ليس إلا فعل المأمورات وترك المنهيات ، فكان هذا أمرا بالمسارعة إلى فعل المأمورات وترك المنهيات ، وتمسك كثير من الأصوليين بهذه الآية في أن ظاهر الأمر يوجب الفور ويمنع من التراخي ووجهه ظاهر ، وللمفسرين فيه كلمات :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : قال ابن عباس : هو الإسلام ، أقول : وجهه ظاهر ؛ لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : هو أداء الفرائض ، ووجهه أن اللفظ مطلق فيجب أن يعم الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أنه الإخلاص وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه : ووجهه أن المقصود من جميع العبادات الإخلاص ، كما قال : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) [البينة : 5]

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : قال أبو العالية : هو الهجرة .

                                                                                                                                                                                                                                            والخامس : أنه الجهاد وهو قول الضحاك ، ومحمد بن إسحاق ، قال : لأن من قوله : ( وإذ غدوت من أهلك ) [آل عمران : 121] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أحد فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصة بما يتعلق بباب الجهاد .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : قال سعيد بن جبير : إنها التكبيرة الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                            والسابع : قال عثمان : إنها الصلوات الخمس .

                                                                                                                                                                                                                                            والثامن : قال عكرمة : إنها جميع الطاعات ؛ لأن اللفظ عام فيتناول الكل .

                                                                                                                                                                                                                                            والتاسع : قال الأصم : سارعوا ، أي بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب ، والوجه فيه أنه تعالى نهى أولا عن الربا ، ثم قال : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ) فهذا يدل على أن المراد منه المسارعة في ترك ما تقدم النهي عنه ، والأولى ما تقدم من وجوب حمله على أداء الواجبات والتوبة عن جميع المحظورات ؛ لأن اللفظ عام فلا وجه في تخصيصه ، ثم أنه تعالى بين أنه كما تجب المسارعة إلى المغفرة فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما لأن الغفران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها إيصال الثواب ، فجمع بينهما للإشعار بأنه لا بد للمكلف من تحصيل الأمرين ، فأما وصف الجنة بأن عرضها السماوات : فمعلوم أن ذلك ليس بحقيقة لأن نفس السماوات لا تكون عرضا للجنة ، فالمراد كعرض السماوات والأرض وهاهنا سؤالات .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 6 ] السؤال الأول : ما معنى أن عرضها مثل عرض السماوات والأرض وفيه وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد لو جعلت السماوات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحدة من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن الجنة التي يكون عرضها مثل عرض السماوات والأرض إنما تكون للرجل الواحد ؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا ، فلا بد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدارها هذا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال أبو مسلم : وفيه وجه آخر وهو أن الجنة لو عرضت بالسماوات والأرض على سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة ، تقول إذا بعت الشيء بالشيء الآخر : عرضته عليه وعارضته به ، فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذا أيضا معنى القيمة لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء بالشيء حتى يكون كل واحد منهما مثلا للآخر .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شيء عندنا أعرض منهما ونظيره قوله : ( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ) [هود : 107] فإن أطول الأشياء بقاء عندنا هو السماوات والأرض ، فخوطبنا على وفق ما عرفناه ، فكذا هاهنا .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : لم خص العرض بالذكر ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه لما كان العرض ذلك فالظاهر أن الطول يكون أعظم ونظيره قوله : ( بطائنها من إستبرق ) [الرحمن : 54] وإنما ذكر البطائن ؛ لأن من المعلوم أنها تكون أقل حالا من الظهارة ، فإذا كانت البطانة هكذا فكيف الظهارة ؟ فكذا هاهنا إذا كان العرض هكذا فكيف الطول ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال القفال : ليس المراد بالعرض هاهنا ما هو خلاف الطول ، بل هو عبارة عن السعة كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال هذه دعوى عريضة ، أي : واسعة عظيمة ، والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ، وما ضاق عرضه دق ، فجعل العرض كناية عن السعة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : أنتم تقولون : الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد من قولنا : إنها فوق السماوات وتحت العرش ، قال عليه السلام : في صفة الفردوس " سقفها عرش الرحمن " وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والمعنى والله أعلم أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب ، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل ، وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء ؟ فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة ، قيل فأين هي ؟ قال : فوق السماوات السبع تحت العرش .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن ، بل الله تعالى يخلقهما بعد قيام القيامة ، فعلى هذا التقدير لا يبعد أن تكون الجنة مخلوقة في مكان السماوات والنار في مكان الأرض ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( أعدت للمتقين ) فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن وقد سبق تقرير ذلك

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية