الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات ، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين فقال : ( قد خلت من قبلكم سنن ) وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال الواحدي : أصل الخلو في اللغة الانفراد والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ويستعمل أيضا في الزمان بمعنى المضي ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود وخلا عنه ، وكذا الأمم الخالية ، وأما السنة فهي الطريقة المستقيمة والمثال المتبع ، وفي اشتقاق هذه اللفظة وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنها فعلة من سن الماء يسنه إذا والى صبه ، والسن الصب للماء ، والعرب شبهت الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزاء الماء فيه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد ، والسنة فعلة بمعنى مفعول .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : أن تكون [ ص: 11 ] من : سننت النصل والسنان أسنه سنا فهو مسنون إذا حددته على المسن ، فالفعل المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة على معنى أنه مسنون .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : أن يكون من قولهم : سن الإبل إذا أحسن الرعي ، والفعل الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم سمي سنة بمعنى أنه عليه الصلاة والسلام أحسن رعايته وإدامته .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : المراد من الآية : قد انقضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة ، واختلفوا في ذلك ، فالأكثرون من المفسرين على أن المراد سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله تعالى : ( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) وذلك لأنهم خالفوا الأنبياء والرسل للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة عليهم ، فرغب الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في تأمل أحوال هؤلاء الماضين ليصير ذلك داعيا لهم إلى الإيمان بالله ورسله والإعراض عن الرياسة في الدنيا وطلب الجاه ، وقال مجاهد : بل المراد سنن الله تعالى في الكافرين والمؤمنين ؛ فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى ، والكافر بقي عليه اللعنة في الدنيا والعقاب في العقبى ثم إنه تعالى قال : ( فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر ، وأيضا يقال الغرض منه زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يعرف بتأمل أحوال المكذبين والمعاندين ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : ( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون ) [الصافات : 173] وقوله : ( والعاقبة للمتقين ) [الأعراف : 128] وقوله : ( أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ) [الأنبياء : 105] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : ليس المراد بقوله ( فسيروا في الأرض فانظروا ) [النحل : 36] الأمر بذلك لا محالة ، بل المقصود تعرف أحوالهم ، فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا ، ولا يمتنع أن يقال أيضا : إن لمشاهدة آثار المتقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                            إن آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار



                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية