الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما الآية الأخرى فقوله تعالى: نسوا الله فنسيهم [التوبة: 67]. وقوله تعالى: قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه: 126]. وقوله تعالى: وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [الجاثية: 34]. لا يقتضي أنه لا يعلم أحوالهم، بل الأمر كما قال السلف: أنهم نسوا في الخير دون الشر، كما روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس: نسوا الله تركوا أنفسهم فنسيهم يقول: تركهم من كرامته وثوابه. وفي تفسير [ ص: 430 ] سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: "نسوا من كل خير، ولم ينسوا من الشر".

وهو كما قالوا، فإنه من المعلوم أنهم إذا عذبوا فهو الخالق لعذابهم وبمشيئته يكون، والمشيئة مستلزمة للعلم، فلا يشاء إلا ما علمه، بل قدر ذلك وكتبه قبل أن يكون، وهو عالم به، وبكل شيء بعدما يكون، كما أخبر في غير موضع أنه يعلم أحوال العبد.

واستعمال النسيان في مثل ذلك لا يستلزم عدم العلم. [ ص: 431 ] يقول القائل لمن أعطى الناس أو مدحهم، أو أكرمهم، أو ولاهم: نسيتني فلم تفعل ما فعلت بفلان. ولا يكون غافلا، بل يكون ذاكرا له، لكن تركه على عمد لأنه لا يستحق ذلك.

ويقال لمن عاقب غيره فجعله في السجن ونحوه: نسيت فلانا. وهو يخطر بقلبه، ويشعر به، لكنه لا يذكره بخير كما يذكر غيره، فإن النسيان ضد الذكر كما قال تعالى: واذكر ربك إذا نسيت [الكهف: 24]. ويقال إذا نسي فذكره: أتذكر كذا أم نسيته؟ والذكر المطلوب من الغير لا يراد به مطلق الذكر، بل يراد به تذكره بخير، ثناء عليه، وإما إحسانا إليه.

وقد يراد بلفظ الذكر الذكر بالشر والذم، كقوله تعالى: وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون [الأنبياء: 36]. أي يذكر آلهتكم بالذم والعيب، وهم بذكر الرحمن الذي يستحقه، وهو الذكر بالمدح والثناء هم كافرون . [ ص: 432 ]

وهذا يعرف بما يقرن باللفظ، فإذا ذكر من يبغض الشخص ويعاديه، وقيل: هو يذكره. علم أنه يذكره بالشر، وإذا ذكر من يحبه ويواليه وقيل: إنه يذكره. علم أنه يذكره بالخير، وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يبغض آلهتهم، فلما قالوا: أهذا الذي يذكر آلهتكم [الأنبياء: 36]. عرف أن المراد ذكرها بالشر، ولما ذمهم على أنهم كافرون بذكر الرحمن علم أن المراد ما يستحقه من الذكر كما قال عز وجل: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة [الزمر: 45]. وقال: وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا [الإسراء: 46]. والذين نسوا الله قد كان يخطر بقلوبهم، ويشعرون به، ويدعونه عند الضرورة، وإذا سئلوا من خلقهم؟ قالوا: الله عز وجل. لكنهم لم يذكروه الذكر الذي يستحقه، فلم يذكروا كتابه المنزل، وأمره، ونهيه، وخبره، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه: 124-126].

فالآيات كما أتته، ولم يذكرها بل أعرض عنها، وإن كان شاعرا بها، فكان الجزاء من جنس العمل، لا يذكر بما [ ص: 433 ] يذكر به المؤمنون من الجزاء بالحسنى، بل ينسى فلا يذكر هذا الذكر، وإن كان معلوما لله لا يجوز أن يكون مجهولا له، وهو كما قال قتادة: "نسوا من الخير لم ينسوا من الشر". ومما يبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» فهذا الذكر هو جزاء ذكره، وهو عالم به سواء ذكره أو لم يذكره، ومن لم يذكر الله، بل أعرض عن ذكره، فإن الله [ ص: 434 ] تعالى يعرض عن ذكره بالخير، وهذا نسيان له من الخير، فتبين أن لفظ النسيان المضاف إلى الله لا يدل على عدم العلم ألبتة، وهذا كلفظ الرؤية والسمع، فإن السمع متعلق بالأقوال.

والقول خبر وطلب، والمطلوب: من سمع الخبر صدقه، ومن سمع الطلب إيجابة الطالب، فلهذا يعبر بالسمع عن التصديق والإجابة، كقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: أجاب دعاه، ولو أريد السمع المجرد أو السمع مع نقص المسموع، فهو يسمع لمن حمده ولمن لم يحمده، كما قال تعالى: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء [آل عمران: 181]. وقال تعالى لموسى وهارون: إنني معكما أسمع وأرى [طه 46]. وقال الملك للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك". [ ص: 435 ]

وقد قال الخليل: إن ربي لسميع الدعاء [إبراهيم: 39]. فهذا كقوله: سمع الله لمن حمده، أي أجاب دعاه، فإنه يجيب الداعي، كما قال تعالى: وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب [سبأ: 50]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا» وقال تعالى في ذم قوم: [ ص: 436 ] سماعون للكذب أكالون للسحت [المائدة: 42]. وقال: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين [المائدة: 41]. أي: مطيعين لهم يستجيبون لهم، كما قال تعالى: وفيكم سماعون لهم [التوبة: 47]. أي: مطيعون لهم. ويقال: فلان ما سمع كلام فلان، إذا كان لا يصدقه فيما يخبر به، ولا يطيعه فيما يأمر ويشير، وهو يسمع كلام فلان إذا كان يصدقه ويقبل منه ما يشير به، وكذلك الرؤية، فالنظر يراد به نظر المحبة أو الرحمة والعطف، ومنه قوله تعالى: ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة [آل عمران: 77]. إذ كان المحبوب والمرحوم ينظر إليه، والبغيض يعرض عنه.

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، شيخ زان، [ ص: 437 ] وملك كذاب، وعائل مستكبر». وقد قال الله تعالى للمنافقين: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله [التوبة: 105]. وقال تعالى: ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون [يونس: 14]. وهو يعم عمل الخير والشر.

وكل موضع من هذه المواضع فمع اللفظ ما يدل على المراد به، ولا يستوي هذا وهذا، وكذلك لفظ النسيان وغيره.

والنسيان المناقض للعلم قد أخبر في غير موضع بما يوجب تنزيهه عنه، مثل قوله عز وجل: وما كان ربك نسيا [مريم: 64]. وفي قوله تعالى: في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى [طه: 52]. بل في نفس الصورة التي قال فيها: وكذلك اليوم تنسى [طه: 126] قال تعالى: [ ص: 438 ] لا يضل ربي ولا ينسى [طه: 52]. فإنه أخبر أنه يوم القيامة يحاسب العباد بأعمالهم، ويثيبهم بها على وجه التفصيل، وهو قد أحصاها وهم نسوها، قال تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيء شهيد [المجادلة: 6].

وهو مع ذلك قد أمر الملائكة بكتب أعمالهم، وهو سبحانه وتعالى الذي أنطق الأعضاء وجعلها تخبر بما كان، فمن جعل الأعضاء عالمة شاهدة بما مضى، كيف لا يكون هو عالما بما مضى شاهدا به؟! وهو سبحانه وتعالى لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء. [ ص: 439 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية