الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم طعنوا في الرسول صلى الله عليه وسلم بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولا من عند الله لما انهزم عسكره من الكفار في يوم أحد : وهو المراد من قولهم : أنى هذا ، وأجاب الله عنه بقوله : ( قل هو من عند أنفسكم ) أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم ، فهذا بيان وجه النظم . وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : تقرير الآية : ( أولما أصابتكم مصيبة ) المراد منها واقعة أحد ، وفي قوله : ( قد أصبتم مثليها ) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو قول الأكثرين أن معناه قد أصبتم يوم بدر ، وذلك لأن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين ، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر ، وهزموهم أيضا في الأول يوم أحد ، ثم لما عصوا هزمهم المشركون ، فانهزام المشركين حصل مرتين ، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة ، وهذا اختيار الزجاج . وطعن الواحدي في هذا الوجه فقال : كما أن المسلمين نالوا من المشركين يوم بدر ، فكذلك المشركون نالوا من المسلمين يوم أحد ، ولكنهم ما هزموا المسلمين البتة ، أما يوم أحد فالمسلمون هزموا المشركين أولا ثم انقلب الأمر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الفائدة في قوله : ( أصبتم مثليها ) هو التنبيه على أن أمور الدنيا لا تبقى على نهج واحد ، فلما هزمتموهم مرتين فأي استبعاد في أن يهزموكم مرة واحدة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( قلتم أنى هذا ) ففيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : سبب تعجبهم أنهم قالوا : نحن ننصر الإسلام الذي هو دين الحق ، ومعنا الرسول ، وهم ينصرون دين الشرك بالله والكفر ، فكيف صاروا منصورين علينا !

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 67 ] واعلم أنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : ما أدرجه عند حكاية السؤال وهو قوله ( قد أصبتم مثليها ) يعني أن أحوال الدنيا لا تبقى على نهج واحد ، فإذا أصبتم منهم مثلي هذه الواقعة ، فكيف تستبعدون هذه الواقعة ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قوله : ( قل هو من عند أنفسكم ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : تقرير هذا الجواب من وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنكم إنما وقعتم في هذه المصيبة بشؤم معصيتكم وذلك لأنهم عصوا الرسول في أمور :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : أن الرسول عليه السلام قال : المصلحة في أن لا نخرج من المدينة بل نبقى ههنا ، وهم أبوا إلا الخروج ، فلما خالفوه توجه إلى أحد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : ما حكى الله عنهم من فشلهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ما وقع بينهم من المنازعة .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : أنهم فارقوا المكان وفرقوا الجمع .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : اشتغالهم بطلب الغنيمة ، وإعراضهم عن طاعة الرسول عليه السلام في محاربة العدو ، فهذه الوجوه كلها ذنوب ومعاص ، والله تعالى إنما وعدهم النصر بشرط ترك المعصية ، كما قال : ( إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم ) [ آل عمران : 125 ] فلما فات الشرط لا جرم فات المشروط .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في التأويل : ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن تقتل منهم عدتهم ، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لقومه ، فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم ، فنتقوى به على قتال العدو ، ونرضى أن يستشهد منا بعددهم ، فقتل يوم أحد سبعون رجلا عدد أسارى أهل بدر ، فهو معنى قوله : ( قل هو من عند أنفسكم ) أي بأخذ الفداء واختياركم القتل .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية