الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما بيان مقدار الواجب منها فالكلام في هذا الفصل في موضعين : أحدهما في بيان ما تقدر به هذه النفقة والثاني : في بيان من تقدر به .

                                                                                                                                أما الأول فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا : هذه النفقة غير مقدرة بنفسها بل بكفايتها ، وقال الشافعي مقدرة بنفسها ، على الموسر مدان ، وعلى المتوسط مد ونصف ، وعلى المعسر نصف مد واحتج بظاهر قوله تعالى { لينفق ذو سعة من سعته } أي قدر سعته فدل أنها مقدرة ولأنه إطعام واجب فيجب أن يكون مقدرا كالإطعام في الكفارات ولأنها وجبت بدلا ; لأنها تجب بمقابلة الملك عندي ومقابلة الحبس عندكم فكانت مقدرة كالثمن في المبيع والمهر في النكاح ولنا قوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } مطلقا عن التقدير فمن قدر فقد خالف النص ولأنه أوجبها باسم الرزق ورزق الإنسان كفايته في العرف والعادة كرزق القاضي والمضارب .

                                                                                                                                وروي أن هند امرأة أبي سفيان قالت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي فقال صلى الله عليه وسلم { خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف } نص عليه أفضل الصلاة والسلام على الكفاية فدل أن نفقة الزوجة مقدرة بالكفاية ولأنها وجبت بكونها محبوسة بحق الزوج ممنوعة عن الكسب لحقه فكان وجوبها بطريق الكفاية كنفقة القاضي والمضارب .

                                                                                                                                وأما الآية فهي حجة عليه ; لأن فيها أمر الذي عنده السعة بالإنفاق على قدر السعة مطلقا عن التقدير بالوزن فكان التقدير به تقييدا لمطلق فلا يجوز إلا بدليل وقوله : إنه إطعام واجب يبطل بنفقة الأقارب فإنه إطعام واجب وهي غير مقدرة بنفسها بل بالكفاية ، والتقدير بالوزن في الكفارات ليس لكونها نفقة واجبة بل لكونها عبادة محضة لوجوبها على وجه الصدقة كالزكاة فكانت مقدرة بنفسها كالزكاة ووجوب هذه النفقة ليس على وجه الصدقة بل على وجه الكفاية فتتقدر بكفايتها كنفقة الأقارب .

                                                                                                                                وأما قوله : إنها وجبت بدلا ممنوع ، ولسنا نقول : إنها تجب بمقابلة الحبس بل تجب جزاء على الحبس ولا يجوز أن تكون واجبة بمقابلة ملك النكاح لما ذكرنا وإذا كان وجوبها على سبيل الكفاية فيجب على الزوج من النفقة قدر ما يكفيها من الطعام والإدام والدهن ; لأن الخبز لا يؤكل عادة إلا مأدوما والدهن لا بد منه للنساء ولا تقدر نفقتها بالدراهم والدنانير على أي سعر كانت ; لأن فيه إضرارا بأحد الزوجين ; إذ السعر قد يغلو وقد يرخص بل تقدر لها على حسب اختلاف الأسعار غلاء ورخصا رعاية للجانبين ويجب عليه من الكسوة في كل سنة مرتين صيفية وشتوية ; لأنها كما تحتاج إلى الطعام والشراب تحتاج إلى اللباس [ ص: 24 ] لستر العورة ولدفع الحر والبرد ويختلف ذلك باليسار والإعسار والشتاء والصيف على ما نذكر إن شاء الله تعالى ، وذكر في كتاب النكاح أن المعسر يفرض عليه خمسة دراهم في الشهر والموسر عشرة وذلك محمول على اعتبار قرار السعر في الوقت ، ولو جاء الزوج بطعام يحتاج إلى الطبخ والخبز فأبت المرأة الطبخ والخبز يعني بأن تطبخ وتخبز لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم الأعمال بين علي وفاطمة رضي الله عنهما فجعل أعمال الخارج على علي وأعمال الداخل على فاطمة رضي الله عنهما ولكنها لا تجبر على ذلك إن أبت ويؤمر الزوج أن يأتي لها بطعام مهيأ ، ولو استأجرها للطبخ والخبز ; لم يجز ولا يجوز لها أخذ الأجرة على ذلك ; لأنها لو أخذت الأجرة لأخذتها على عمل واجب عليها في الفتوى فكان في معنى الرشوة فلا يحل لها الأخذ ، وذكر الفقيه أبو الليث أن هذا إذا كان بها علة لا تقدر على الطبخ والخبز أو كانت من بنات الأشراف ، فأما إذا كانت تقدر على ذلك وهي ممن تخدم بنفسها تجبر على ذلك وإن كان لها خادم يجب لخادمها أيضا النفقة والكسوة إذا كانت متفرغة لشغلها ولخدمتها لا شغل لها غيرها ; لأن أمور البيت لا تقوم بها وحدها فتحتاج إلى خادم ولا يجب عليه لأكثر من خادم واحد في قول أبي حنيفة ومحمد عند أبي يوسف يجب لخادمين ولا يجب أكثر من ذلك .

                                                                                                                                وروي عنه رواية أخرى أن المرأة إذا كانت يجل مقدارها عن خدمة خادم واحد وتحتاج إلى أكثر من ذلك يجب لأكثر من ذلك بالمعروف وبه أخذ الطحاوي وجه ظاهر قول أبي يوسف إن خدمة امرأة لا تقوم بخادم واحد بل تقع الحاجة إلى خادمين يكون أحدهما معينا للآخر وجه قولهما أن الزوج لو قام بخدمتها بنفسه لا يلزمه نفقة خادم أصلا وخادم واحد يقوم مقامه فلا يلزمه غيره ; لأنه إذا قام مقامه ; صار كأنه خدم بنفسه ولأن الخادم الواحد لا بد منه والزيادة على ذلك ليس له حد معلوم يقدر به فلا يكون اعتبار الخادمين أولى من الثلاثة والأربعة فيقدر بالأقل وهو الواحد هذا إذا كان الزوج موسرا فأما إذا كان معسرا فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه ليس عليه نفقة خادم وإن كان لها خادم ، وقال محمد : إن كان لها خادم فعليه نفقته وإلا فلا ، وجه قول محمد أنه لما كان لها خادم علم أنها لا ترضى بالخدمة بنفسها فكان على الزوج نفقة خادمها وإن لم يكن لها خادم ; دل أنها راضية بالخدمة بنفسها فلا يجبر على اتخاذ خادم لم يكن ، وجه رواية الحسن أن الواجب على الزوج المعسر من النفقة أدنى الكفاية ، وقد تكفى المرأة بخدمة نفسها فلا يلزمه نفقة الخادم وإن كان لها خادم .

                                                                                                                                وأما الثاني : وهو بيان من يقدر به هذه النفقة فقد اختلف فيه أيضا ذكر الكرخي أن قدر النفقة والكسوة يعتبر بحال الزوج في يساره وإعساره لا بحالها وهو قول الشافعي أيضا ، وذكر الخصاف أنه يعتبر بحالهما جميعا حتى لو كانا موسرين فعليه نفقة اليسار وإن كانا معسرين فعليه نفقة الإعسار ، وكذلك إذا كان الزوج معسرا والمرأة موسرة ، ولا خلاف في هذه الجملة فأما إذا كان الزوج موسرا والمرأة معسرة ; فعليه نفقة اليسار على ما ذكره الكرخي وعلى قول الخصاف عليه أدنى من نفقة الموسرات وأوسع من نفقة المعسرين حتى لو كان الزوج مفرطا في اليسار يأكل خبز الحوارى ولحم الحمل والدجاج ، والمرأة مفرطة في الفقر تأكل في بيتها خبز الشعير ; لا يجب عليه أن يطعمها ما يأكله ولا يطعمها ما كانت تأكل في بيت أهلها أيضا ولكن يطعمها خبز الحنطة ولحم الشاة وكذلك الكسوة على هذا الاعتبار ، وجه قول الخصاف إن في اعتبار حالتهما في تقدير النفقة والكسوة نظرا من الجانبين فكان أولى من اعتبار حال أحدهما والصحيح ما ذكره الكرخي لقوله تعالى { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } وهذا نص في الباب إذا عرف هذا فنقول إذا كان الزوج معسرا ينفق عليها أدنى ما يكفيها من الطعام والإدام والدهن بالمعروف ومن الكسوة أدنى ما يكفيها من الصيفية والشتوية ، وإن كان متوسطا ينفق عليها أوسع من ذلك بالمعروف ومن الكسوة أرفع من ذلك بالمعروف ، وإن كان غنيا ينفق عليها أوسع من ذلك كله بالمعروف ومن الكسوة أرفع من ذلك كله بالمعروف وإنما كانت النفقة والكسوة بالمعروف ; لأن دفع الضرر عن الزوجين واجب وذلك في إيجاب الوسط من الكفاية وهو تفسير المعروف فيكفيها من الكسوة في الصيف قميص وخمار [ ص: 25 ] وملحفة وسراويل - أيضا في عرف ديارنا - على قدر حاله من الخشن واللين والوسط ، والخشن إذا كان من الفقراء واللين إذا كان من الأغنياء والوسط إذا كان من الأوساط وذلك كله من القطن أو الكتان على حسب عادات البلدان إلا الخمار فإنه يفرض على الغني خمار حرير في الشتاء يزاد على ذلك حشويا وفروة بحسب اختلاف البلاد في الحر والبرد .

                                                                                                                                وأما نفقة الخادم فقد قيل : إن الزوج الموسر يلزمه نفقة الخادم كما يلزم المعسر نفقة امرأته وهو أدنى الكفاية وكذا الكسوة ، ولو اختلفا فقالت المرأة : إنه موسر وعليه نفقة الموسرين ، وقال الزوج : إني معسر وعلي نفقة المعسرين والقاضي لا يعلم بحاله ذكره في كتاب النكاح أن القول قول الزوج مع يمينه وكذا ذكر القاضي والخصاف ، وذكر محمد في الزيادات أن القول قول المرأة مع يمينها وأصل هذا أنه متى وقع الاختلاف بين الطالب وبين المطلوب في يسار المطلوب وإعساره في سائر الديون فالمشايخ اختلفوا فيه منهم من جعل القول قول المطلوب مطلقا ومنهم من جعل القول قول الطالب مطلقا ومنهم من حكم فيه رأي المطلوب ومحمد فصل بين الأمرين فجعل القول قول الطالب في البعض وقول المطلوب في البعض ، وذكر في الفصل أصلا يوجب أن يكون القول في النفقة قول المرأة وكذا فصل الخصاف لكنه ذكر أصلا يقتضي أن يكون القول في النفقة قول الزوج .

                                                                                                                                وبيان الأصلين وذكر الحجج يأتي في كتاب الحبس - إن شاء الله تعالى - فإن أقامت المرأة البينة على يساره قبلت بينتها وإن أقاما جميعا البينة فالبينة بينتها ; لأنها مثبتة وبينة الزوج لا تثبت شيئا ، ولو فرض القاضي لها نفقة شهر وهو معسر ثم أيسر قبل تمام الشهر يزيدها في الفرض ; لأن النفقة تختلف باختلاف اليسار والإعسار وكذلك لو فرض لها فريضة للوقت والسعر رخيص ثم غلا فلم يكفها ما فرض لها فإنه يزيدها في الفرض ; لأن الواجب كفاية الوقت وذلك يختلف باختلاف السعر ، ولو فرض لها نفقة شهر فدفعها الزوج إليها ثم ضاعت قبل تمام الشهر فليس عليه نفقة أخرى حتى يمضي الشهر وكذا إذا كساها الزوج فضاعت الكسوة قبل تمام المدة فلا كسوة لها عليه حتى تمضي المدة التي أخذت لها الكسوة بخلاف نفقة الأقارب فإن هناك يجبر على نفقة أخرى وكسوة أخرى لتمام المدة التي أخذ لها الكسوة إذا حلف أنها ضاعت ، ووجه الفرق أن تلك النفقة تجب للحاجة ; ألا ترى أنها لا تجب إلا للمحتاج وقد تحققت الحاجة إلى نفقة أخرى وكسوة أخرى ووجوب هذه النفقة ليس معلولا بالحاجة بدليل أنها تجب للموسرة إلا أن لها شبها بالأعواض وقد جعلت عوضا عن الاحتباس في جميع الشهر فلا يلزمه عوض آخر في هذه المدة ، ولو فرض القاضي لها نفقة أو كسوة فمضى الوقت الذي أخذت له وقد بقيت تلك النفقة أو الكسوة بأن أكلت من مال آخر أو لبست ثوبا آخر فلها عليه نفقة أخرى وكسوة أخرى بخلاف نفقة الأقارب والفرق ما ذكرنا أن نفقة الأقارب تجب بعلة الحاجة صلة محضة ولا حاجة عند بقاء النفقة والكسوة ، ونفقة الزوجات لا تجب لمكان الحاجة وإنما تجب جزاء على الاحتباس لكن لها شبهة العوضية عن الاحتباس وقد جعلت عوضا في هذه المدة وهي محتبسة بعد مضي هذه المدة بحبس آخر فلا بد لها من عوض آخر ، ولو نفدت نفقتها قبل مضي المدة التي لها أخذت أو تخرق الثوب ; فلا نفقة لها على الزوج ولا كسوة حتى تمضي المدة بخلاف نفقة الأقارب وكسوتهم ، والفرق نحو ما ذكرنا والله أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية