الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما نفقة الأقارب فالكلام فيها أيضا يقع في المواضع التي ذكرناها في نفقة الزوجات وهي بيان وجوب هذه النفقة وسبب وجوبها وشرط الوجوب ومقدار الواجب وكيفية الوجوب وما يسقطها بعد الوجوب أما الأول : وهو بيان الوجوب فلا يمكن الوصول إليه إلا بعد معرفة أنواع القرابات فنقول وبالله التوفيق : القرابة في الأصل نوعان : قرابة الولادة ، وقرابة غير الولادة وقرابة غير الولادة نوعان أيضا : قرابة محرمة للنكاح كالأخوة والعمومة والخؤولة وقرابة غير محرمة للنكاح كقرابة بني الأعمام والأخوال والخالات ولا خلاف في وجوب النفقة في قرابة الولادة وأما نفقة الوالدين فلقوله عز وجل { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } أي : أمر ربك وقضى أن لا تعبدوا إلا إياه .

                                                                                                                                أمر سبحانه وتعالى ووصى بالوالدين إحسانا ، والإنفاق عليهما حال فقرهما من أحسن الإحسان وقوله عز وجل { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا } وقوله تعالى { أن اشكر لي ولوالديك } والشكر للوالدين هو المكافأة لهما أمر سبحانه وتعالى الولد أن يكافئ لهما ويجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية والبر والعطف عليه والوقاية من كل شر ومكروه وذلك عند عجزهما عن القيام بأمر أنفسهما والحوائج لهما وإدرار النفقة عليهما حال عجزهما وحاجتهما من باب شكر النعمة فكان واجبا وقوله عز وجل { وصاحبهما في الدنيا معروفا } وهذا في الوالدين الكافرين فالمسلمان أولى والإنفاق عليهما عند الحاجة من أعرف المعروف وقوله عز وجل { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } وأنه كناية عن كلام فيه ضرب إيذاء ، ومعلوم أن معنى التأذي بترك الإنفاق عليهما عند عجزهما وقدرة الولد أكثر فكان النهي عن التأفيف نهيا عن ترك الإنفاق دلالة ، كما كان نهيا عن الشتم والضرب دلالة .

                                                                                                                                وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن { رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبوه فقال : يا رسول الله إن لي مالا وإن لي أبا وله مال وإن أبي يريد أن يأخذ مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك } أضاف مال الابن إلى الأب فاللام التمليك وظاهره يقتضي أن يكون للأب في مال ابنه حقيقة الملك فإن لم تثبت الحقيقة فلا أقل من أن يثبت له حق التمليك عند الحاجة .

                                                                                                                                وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب أولادكم إذا احتجتم إليه بالمعروف } والحديث حجة بأوله وآخره أما بآخره فظاهر ; لأنه صلى الله عليه وسلم أطلق للأب الأكل من كسب ولده إذا احتاج إليه مطلقا عن شرط الإذن والعوض فوجب القول به .

                                                                                                                                وأما بأوله فلأن معنى قوله وإن ولده من كسبه أي : كسب ولده من كسبه ; لأنه جعل كسب الرجل أطيب المأكول والمأكول كسبه لا نفسه وإذا كان كسب ولده كسبه كانت نفقته فيه ; لأن نفقة الإنسان في كسبه ولأن ولده لما كان من كسبه ; كان كسب ولده ككسبه وكسب كسب الإنسان كسبه ، ككسب عبده المأذون فكانت نفقته فيه .

                                                                                                                                وأما نفقة الولد فلقوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن } إلى قوله { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن } أي : رزق الوالدات المرضعات فإن كان المراد من الوالدات المرضعات المطلقات المنقضيات العدة ; ففيها إيجاب نفقة الرضاع على المولود له وهو الأب لأجل الولد كما في قوله تعالى { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } وإن كان المراد من ( هن ) المنكوحات أو المطلقات المعتدات فإنما ذكر النفقة والكسوة في حال الرضاع وإن كانت المرأة تستوجب ذلك من غير ولد ; لأنها تحتاج إلى فضل إطعام وفضل كسوة لمكان الرضاع .

                                                                                                                                ألا ترى أن لها أن تفطر لأجل الرضاع إذا كانت صائمة لزيادة حاجتها إلى الطعام بسبب [ ص: 31 ] الولد ولأن الإنفاق عند الحاجة من باب إحياء المنفق عليه والولد جزء الوالد وإحياء نفسه واجب كذا إحياء جزئه واعتبار هذا المعنى يوجب النفقة من الجانبين ولأن هذه القرابة مفترضة الوصل محرمة القطع بالإجماع والإنفاق من باب الصلة فكان واجبا وتركه مع القدرة للمنفق وتحقق حاجة المنفق عليه يؤدي إلى القطع فكان حراما واختلف في وجوبها في القرابة المحرمة للنكاح سوى قرابة الولادة قال أصحابنا : تجب وقال مالك والشافعي : لا تجب غير أن مالكا يقول : لا نفقة إلا على الأب للابن والابن للأب حتى قال : لا نفقة على الجد لابن الابن ولا على ابن الابن للجد وقال الشافعي : تجب على الوالدين والمولودين ، والكلام في هذه المسألة بناء على أن هذه القرابة مفترضة الوصل محرمة القطع عندنا خلافا لهما وعلى هذا ينبني العتق عند الملك ، ووجوب القطع بالسرقة وهي من مسائل العتاق نذكرها هناك إن شاء الله تعالى ثم الكلام في المسألة على سبيل الابتداء احتج الشافعي فقال : إن الله تعالى أوجب النفقة على الأب لا غير بقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } فمن كان مثل حاله في القرب يلحق به وإلا فلا ولا يقال : إن الله تعالى قال { وعلى الوارث مثل ذلك } ; لأن ابن عباس رضي الله عنه صرف قوله ذلك إلى ترك المضارة لا إلى النفقة والكسوة ; فكان معناه لا يضار الوارث باليتيم كما لا تضار الوالدة والمولود له بولدهما ولنا قوله تعالى { وعلى الوارث مثل ذلك } .

                                                                                                                                وروي عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما وجماعة من التابعين أنه معطوف على النفقة والكسوة لا غير ، لا على ترك المضارة معناه وعلى الوارث مثل ما على المولود له من النفقة والكسوة ; ومصداق هذا التأويل أنه لو جعل عطفا على هذا ; لكان عطف الاسم على الاسم وإنه شائع ، ولو عطف على ترك المضارة لكان عطف الاسم على الفعل ; فكان الأول أولى ولأنه لو جعل عطفا على قوله { لا تضار } لكان من حق الكلام أن يقول : والوارث مثل ذلك وجماعة من أهل التأويل عطفوا على الكل من النفقة والكسوة وترك المضارة ; لأن الكلام كله معطوف بعضه على بعض بحرف الواو وإنه حرف جمع فيصير الكل مذكورا في حالة واحدة فينصرف قوله ذلك إلى الكل أي : على الوارث مثل ذلك من النفقة والكسوة وأنه لا يضارها ، ولا تضاره في النفقة وغيرها وبه تبين رجحان هذين التأويلين على تأويل ابن عباس رضي الله عنهما على أن ما قاله ابن عباس ومن تابعه لا ينفي وجوب النفقة على الوارث بل يوجب لأن قوله تعالى { لا تضار والدة بولدها } نهى سبحانه وتعالى عن المضارة مطلقا في النفقة وغيرها فإذا كان معنى إضرار الوالد الوالدة بولدها بترك الإنفاق عليها أو بانتزاع الولد منها وقد أمر الوارث بقوله تعالى { وعلى الوارث مثل ذلك } أنه لا يضارها ; فإنما يرجع ذلك إلى مثل ما لزم الأب وذلك يقتضي أن يجب على الوارث أن يسترضع الوالدة بأجرة مثلها ولا يخرج الولد من يدها إلى يد غيرها إضرارا بها وإذا ثبت هذا فظاهر الآية يقتضي وجوب النفقة والكسوة على كل وارث أو على مطلق الوارث إلا من خص أو قيد بدليل .

                                                                                                                                وأما القرابة التي بمحرمة للنكاح فلا نفقة فيها عند عامة العلماء خلافا لابن أبي ليلى واحتج بظاهر قوله تعالى { وعلى الوارث مثل ذلك } من غير فصل بين وارث ووارث ، وإنا نقول : المراد من الوارث الأقارب الذي له رحم محرم لا مطلق الوارث ، عرفنا ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ولأن وجوبها في القرآن العظيم معلولا بكونها صلة الرحم صيانة لها عن القطيعة فيختص وجوبها بقرابة يجب وصلها ويحرم قطعها ولم توجد ; فلا تجب ولهذا لا يثبت العتق عند الملك ولا يحرم النكاح ولا يمنع وجوب القطع بالسرقة ، والله الموفق .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية