الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد ، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت إليها ، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله ، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد ، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة ، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة ، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل . فهذا بيان وجه النظم ، وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو " ولا تحسبن الذين كفروا . ولا تحسبن الذين يبخلون . لا تحسبن الذين يفرحون . فلا تحسبنهم " في الأربعة بالتاء وضم الباء في قوله ( تحسبنهم ) وقرأ نافع وابن عامر بالياء إلا قوله : " فلا تحسبنهم " [ آل عمران : 188 ] فإنه بالتاء ، وقرأ حمزة كلها بالتاء ، واختلاف القراء في فتح السين وكسرها قدمناه في سورة البقرة ، أما الذين قرءوا بالياء المنقطة من تحت : [ ص: 87 ] فقوله : ( يحسبن ) فعل ، وقوله : ( الذين كفروا ) فاعل يقتضي مفعولين أو مفعولا يسد مسد مفعولين نحو حسبت ، وقوله : حسبت أن زيدا منطلق ، وحسبت أن يقوم عمرو ، فقوله في الآية : ( أنما نملي لهم خير لأنفسهم ) يسد مسد المفعولين ، ونظيره قوله تعالى : ( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون ) [ الفرقان : 44 ] وأما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فأحسن ما قيل فيه ما ذكره الزجاج ، وهو أن ( الذين كفروا ) نصب بأنه المفعول الأول ، و ( أنما نملي لهم ) بدل عنه . و ( خير لأنفسهم ) هو المفعول الثاني ، والتقدير : ولا تحسبن يا محمد إملاء الذين كفروا خيرا لهم . ومثله مما جعل " أن " مع الفعل بدلا من المفعول قوله تعالى : ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ) [ الأنفال : 7 ] فقوله : ( أنها لكم ) بدل من إحدى الطائفتين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : " ما " في قوله : ( أنما ) يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون بمعنى ( الذي ) فيكون التقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن الذي نمليه خير لأنفسهم ، وحذف الهاء من " نملي " لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك : الذي رأيت زيد .

                                                                                                                                                                                                                                            والآخر : أن يقال : " ما " مع ما بعدها في تقدير المصدر ، والتقدير : لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال صاحب الكشاف : " ما " مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة ، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب ، وأما في قوله : ( أنما نملي لهم ) فههنا يجب أن تكون متصلة لأنها كافة بخلاف الأولى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : معنى " نملي " نطيل ونؤخر ، والإملاء الإمهال والتأخير ، قال الواحدي - رحمه الله - : واشتقاقه من الملوة وهي المدة من الزمان ، يقال : ملوت من الدهر ملوة وملوة وملاوة وملاوة بمعنى واحد ، قال الأصمعي : يقال : أملى عليه الزمان أي طال ، وأملى له أي طول له وأمهله ، قال أبو عبيدة : ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة والملوان الليل والنهار .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية