الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 280 ] سورة النور قال الشيخ الرباني والصديق الثاني : إمام الأئمة ومفتي الأمة : وبحر العلوم وبدر النجوم . وسند الحفاظ وفارس المعاني والألفاظ : وفريد العصر وأوحد الدهر : وشيخ الإسلام وإمام الأئمة الأعلام : وعلامة الزمان وترجمان القرآن : وعلم الزهاد وأوحد العباد وقامع المبتدعين وآخر المجتهدين البحر الزاخر والصارم الباتر : أبو العباس تقي الدين أحمد بن شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم بن شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القاسم الخضر بن محمد بن الخضر علي بن عبد الله بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه ورضي عنه وأرضاه : [ ص: 281 ] فصل في معان مستنبطة من سورة النور قال تعالى : { سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون } ففرضها بالبينات والتقدير لحدود الله التي من يتعد حلالها إلى الحرام فقد ظلم نفسه ومن قرب من حرامها فقد اعتدى وتعدى الحدود وبين فيها فرض العقوبة للزانيين مائة جلدة وبين فيها فريضة الشهادة على الزنا وأنها أربع شهادات وكذلك فريضة شهادة المتلاعنين كل منهما يشهد أربع شهادات بالله ونهى فيها عن تعدي حدوده في الفروج والأعراض والعورات وطاعة ذي السلطان سواء كان في منزله أو في ولايته ولا يخرج ولا يدخل إلا بإذنه إذ الحقوق نوعان : نوع لله فلا يتعدى حدوده ونوع للعباد فيه أمر فلا يفعل إلا بإذن المالك وليس لأحد أن يفعل شيئا في حق غيره إلا بإذن الله وإن لم يأذن المالك فإذن الله هو الأصل وإذن المالك حيث أذن الله وجعل له الإذن فيه .

                ولهذا ضمنها الاستئذان في المساكن والمطاعم والاستئذان في [ ص: 282 ] الأمور الجامعة كالصلاة والجهاد ونحوهما ووسطها بذكر النور الذي هو مادة كل خير وصلاح كل شيء وهو ينشأ عن امتثال أمر الله واجتناب نهيه وعن الصبر على ذلك فإنه ضياء فإن حفظ الحدود بتقوى الله يجعل الله لصاحبه نورا كما قال تعالى : { اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم

                } فضد النور الظلمة ولهذا عقب ذكر النور وأعمال المؤمنين فيها بأعمال الكفار وأهل البدع والضلال فقال : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } إلى قوله { ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } وكذلك الظلم ظلمات يوم القيامة وظلم العبد نفسه من الظلم فإن للسيئة ظلمة في القلب وسوادا في الوجه ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق كما روي ذلك عن ابن عباس .

                يوضح ذلك أن الله ضرب مثل إيمان المؤمنين بالنور ومثل أعمال الكفار بالظلمة .

                و " الإيمان " اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه . و " الكفر " [ ص: 283 ] اسم جامع لكل ما يبغضه الله وينهى عنه وإن كان لا يكفر العبد إذا كان معه أصل الإيمان وبعض فروع الكفر من المعاصي كما لا يكون مؤمنا إذا كان معه أصل الكفر وبعض فروع الإيمان - ولغض البصر اختصاص بالنور كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى - وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى يعلو قلبه فذلك الران الذي ذكر الله { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } } رواه الترمذي وصححه . وفي الصحيح أنه قال { إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة } والغين حجاب رقيق أرق من الغيم فأخبر أنه يستغفر الله استغفارا يزيل الغين عن القلب فلا يصير نكتة سوداء كما أن النكتة السوداء إذا أزيلت لا تصير رينا .

                وقال حذيفة : إن الإيمان يبدو في القلب لمظة بيضاء فكلما ازداد العبد إيمانا ازداد قلبه بياضا فلو كشفتم عن قلب المؤمن لرأيتموه أبيض مشرقا وإن النفاق يبدو منه لمظة سوداء فكلما ازداد العبد نفاقا ازداد قلبه سوادا فلو كشفتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود مربدا . وقال صلى الله عليه وسلم { إن النور إذا دخل القلب انشرح وانفسح قيل : فهل لذلك من علامة يا رسول الله ؟ قال : نعم [ ص: 284 ] التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله .

                } وفي خطبة الإمام أحمد التي كتبها في كتابه في الرد على الجهمية والزنادقة قال : " الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه حيران قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم نعوذ بالله من شبه المضلين .

                قلت : وقد قرن الله سبحانه في كتابه في غير موضع بين أهل الهدى والضلال وبين أهل الطاعة والمعصية بما يشبه هذا كقوله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير } { ولا الظلمات ولا النور } { ولا الظل ولا الحرور } { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } وقال : { مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } الآية وقال في المنافقين : [ ص: 285 ] { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } الآيات وقال : { الله ولي الذين آمنوا } الآية . وقال : { كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } . والآيات في ذلك كثيرة .

                وهذا النور الذي يكون للمؤمن في الدنيا على حسن عمله واعتقاده يظهر في الآخرة كما قال تعالى : { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } الآية فذكر النور هنا عقيب أمره بالتوبة كما ذكره في سورة النور عقيب أمره بغض البصر وأمره بالتوبة في قوله : { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون } وذكر ذلك بعد أمره بحقوق الأهلين والأزواج وما يتعلق بالنساء وقال في سورة الحديد : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } الآيات إلى قوله في المنافقين : { مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير

                } فأخبر سبحانه أن المنافقين يفقدون النور الذي كان المؤمنون يمشون به ويطلبون الاقتباس من نورهم فيحجبون عن ذلك بحجاب يضرب بينهم وبين المؤمنين كما أن المنافقين لما فقدوا النور في الدنيا كان مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات فقوله تعالى : { الزانية والزاني } الآية فأمر بعقوبتهما وعذابهما بحضور طائفة من المؤمنين وذلك بشهادته على نفسه أو بشهادة المؤمنين عليه ; لأن المعصية إذا كانت ظاهرة كانت عقوبتها [ ص: 286 ] ظاهرة ; كما جاء في الأثر : " من أذنب سرا فليتب سرا ومن أذنب علانية فليتب علانية " وليس من الستر الذي يحبه الله تعالى - كما في الحديث : { من ستر مسلما ستره الله } - بل ذلك إذا ستر كان ذلك إقرارا لمنكر ظاهر : وفي الحديث { إن الخطيئة إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها وإذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة } فإذا أعلنت أعلنت عقوبتها بحسب العدل الممكن .

                ولهذا لم يكن للمعلن بالبدع والفجور غيبة كما روي ذلك عن الحسن البصري وغيره ; لأنه لما أعلن ذلك استحق عقوبة المسلمين له وأدنى ذلك أن يذم عليه لينزجر ويكف الناس عنه وعن مخالطته ولو لم يذم ويذكر بما فيه من الفجور والمعصية أو البدعة لاغتر به الناس وربما حمل بعضهم على أن يرتكب ما هو عليه ويزداد أيضا هو جرأة وفجورا ومعاصي فإذا ذكر بما فيه انكف وانكف غيره عن ذلك وعن صحبته ومخالطته قال الحسن البصري : { أترغبون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه كي يحذره الناس } وقد روي مرفوعا و " الفجور " اسم جامع لكل متجاهر بمعصية أو كلام قبيح يدل السامع له على فجور قلب قائله .

                ولهذا كان مستحقا للهجر إذا أعلن بدعة أو معصية أو فجورا أو تهتكا أو مخالطة لمن هذا حاله بحيث لا يبالي بطعن الناس عليه فإن [ ص: 287 ] هجره نوع تعزير له فإذا أعلن السيئات أعلن هجره وإذا أسر أسر هجره إذ الهجرة هي الهجرة على السيئات وهجرة السيئات هجرة ما نهى الله عنه كما قال تعالى : { والرجز فاهجر } وقال تعالى : { واهجرهم هجرا جميلا } وقال : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم

                } وقد روي عن عمر بن الخطاب : أن ابنه عبد الرحمن لما شرب الخمر بمصر وذهب به أخوه إلى أمير مصر عمرو بن العاص ليجلده الحد جلده الحد سرا وكان الناس يجلدون علانية فبعث عمر بن الخطاب إلى عمرو ينكر عليه ذلك . ولم يعتد عمر بذلك الجلد حتى أرسل إلى ابنه فأقدمه المدينة فجلده الحد علانية ولم ير الوجوب سقط بالحد الأول وعاش ابنه بعد ذلك مدة ثم مرض ومات ولم يمت من ذلك الجلد ولا ضربه بعد الموت كما يزعمه الكذابون .

                قوله تعالى { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } الآية : نهى تعالى عما يأمر به الشيطان في العقوبات عموما وفي أمر الفواحش خصوصا فإن هذا الباب مبناه على المحبة والشهوة والرأفة التي يزينها الشيطان بانعطاف القلوب على أهل الفواحش والرأفة بهم حتى يدخل كثير من الناس بسبب هذه الآفة في الدياثة وقلة الغيرة إذا [ ص: 288 ] رأى من يهوى بعض المتصلين به أو يعاشره عشرة منكرة أو رأى له محبة أو ميلا وصبابة وعشقا ولو كان ولده رأف به وظن أن هذا من رحمة الخلق ولين الجانب بهم ومكارم الأخلاق وإنما ذلك دياثة ومهانة وعدم دين وضعف إيمان وإعانة على الإثم والعدوان وترك للتناهي عن الفحشاء والمنكر .

                وتدخل النفس به في القيادة التي هي أعظم الدياثة كما دخلت عجوز السوء مع قومها في استحسان ما كانوا يتعاطونه من إتيان الذكران والمعاونة لهم على ذلك وكانت في الظاهر مسلمة على دين زوجها لوط وفي الباطن منافقة على دين قومها لا تقلي عملهم كما قلاه لوط ; فإنه أنكره ونهاهم عنه وأبغضه وكما فعل النسوة اللواتي بمصر مع يوسف فإنهن أعن امرأة العزيز على ما دعته إليه من فعل الفاحشة معها ; ولهذا قال { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } وذلك بعد قولهن { إنا لنراها في ضلال مبين

                } ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب فإن الشهوة توجب السكر كما قال تعالى عن قوم لوط : { إنهم لفي سكرتهم يعمهون } وفي الصحيحين واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العينان تزنيان وزناهما النظر } الحديث إلى آخره . فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه [ ص: 289 ] الأنواع المذكورة في هذا الحديث : كالنظر والاستمتاع والمخاطبة . ومنهم من يرتقي إلى اللمس والمباشرة ومنهم من يقبل وينظر وكل ذلك حرام وقد نهانا الله عز وجل أن تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم عليهم الحد فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن ونهي وتوبيخ وغير ذلك بل ينبغي شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنا المذكورة في هذا الحديث المتقدم وغيره .

                وذلك أن المحب العاشق وإن كان إنما يحب النظر والاستمتاع بصورة ذلك المحبوب وكلامه فليس دواؤه في أن يعطي نفسه محبوبها وشهوتها من ذلك لأنه مريض والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه فأخذتنا رأفة عليه حتى نمنعه شربه فقد أعناه على ما يضره أو يهلكه وعلى ترك ما ينفعه فيزداد سقمه فيهلك وهكذا المذنب العاشق ونحوه هو مريض فليس الرأفة به والرحمة أن يمكن مما يهواه من المحرمات ولا يعان على ذلك ولا أن يمكن من ترك ما ينفعه من الطاعات التي تزيل مرضه قال تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } أي فيها الشفاء وأكبر من ذلك .

                بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريها : مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات وأن يحمى عما يقوي داءه ويزيد علته وإن اشتهاه . ولا يظن الظان أنه إذا حصل له استمتاع [ ص: 290 ] بمحرم يسكن بلاؤه بل ذلك يوجب له انزعاجا عظيما وزيادة في البلاء والمرض في المآل فإنه وإن سكن بلاؤه وهدأ ما به عقيب استمتاعه أعقبه ذلك مرضا عظيما عسيرا لا يتخلص منه بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء الذي ترامى به إلى الهلاك والعطب ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر وأخف من ألم المرض الباقي .

                وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب وهي من رحمة الله بعباده ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه وإن كان لا يريد إلا الخير إذ هو في ذلك جاهل أحمق كما يفعله بعض النساء والرجال الجهال بمرضاهم وبمن يربونه من أولادهم وغلمانهم وغيرهم في ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير رأفة بهم فيكون ذلك سبب فسادهم وعداوتهم وهلاكهم .

                ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وذوقه ما ذاقوه من قوة الشهوة وبرودة القلب والدياثة فيترك ما أمر الله به من العقوبة وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه وهو بمنزلة جماعة من المرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم [ ص: 291 ] فوجد كبيرهم مرارته فترك شربه ونهى عن سقيه للباقين .

                ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانيين محبوبا له إما أن يكون محبا لصورته وجماله بعشق أو غيره أو لقرابة بينهما أو لمودة أو لإحسانه إليه أو لما يرجو منه من الدنيا أو غير ذلك أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب . ويتأول : { إنما يرحم الله من عباده الرحماء } ويقول الأحمق : { الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } وغير ذلك وليس كما قال بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه بل قد ورد في الحديث { لا يدخل الجنة ديوث } فمن لم يكن مبغضا للفواحش كارها لها ولأهلها ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها لم يكن مريدا للعقوبة عليها فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه قال تعالى : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } الآية .

                فإن دين الله هو طاعته وطاعة رسوله المبني على محبته ومحبة رسوله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ; فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله ما لم تكن مضيعة لدين الله .

                وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إنما يرحم الله من عباده الرحماء } وقال : { لا يرحم الله من لا يرحم الناس } وقال : [ ص: 292 ] { من لا يرحم لا يرحم } وفي السنن : { الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } . فهذه الرحمة حسنة مأمور بها أمر إيجاب أو استحباب بخلاف الرأفة في دين الله فإنها منهي عنها والشيطان .

                يريد من الإنسان الإسراف في أموره كلها فإنه إن رآه مائلا إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله ; ولا يغار لما يغار الله منه وإن رآه مائلا إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر واللين والصلة والرحمة ما يأمر به الله ورسوله ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله : فهذا يترك ما أمر الله به من الرحمة والإحسان وهو مذموم مذنب في ذلك ويسرف فيما أمر الله به ورسوله من الشدة حتى يتعدى الحدود وهو من إسرافه في أمره . فالأول مذنب والثاني مسرف { إنه لا يحب المسرفين } فليقولا جميعا : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } .

                وقوله تعالى { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } فالمؤمن بالله واليوم الآخر يفعل ما يحبه الله ورسوله وينهى عما يبغضه الله ورسوله ومن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يتبع هواه فتارة تغلب عليه الرأفة [ ص: 293 ] هوى وتارة تغلب عليه الشدة هوى فيتبع ما يهواه في الجانبين بغير هدى من الله { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } فإن الزنا من الكبائر وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر فإن أصر على النظر أو على المباشرة صار كبيرة وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة قد يكون أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه ; ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل : أن لا يأتي كبيرة ولا يصر على صغيرة وفي الحديث المرفوع { لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار } .

                بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك كما قال تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله } . ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان والله تعالى إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة وعن قوم لوط المشركين والعاشق المتيم يصير عبدا لمعشوقه منقادا له أسير القلب له .

                وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الحدود إن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله فيما رواه أبو داود عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من حالت شفاعته دون حد [ ص: 294 ] من حدود الله فقد ضاد الله في أمره ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع ومن قال في مسلم ما ليس فيه حبس في ردغة الخبال حتى يخرج مما قال } فالشافع في تعطيل الحدود مضاد لله في أمره ; لأن الله أمر بالعقوبة على تعدي الحدود فلا يجوز أن تأخذ المؤمن رأفة بأهل البدع والفجور والمعاصي والظلمة .

                وجماع ذلك كله فيما وصف الله به المؤمنين حيث قال { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } وقال { أشداء على الكفار رحماء بينهم } فإن هذه الكبائر كلها من شعب الكفر ولم يكن المسلم كافرا بمجرد ارتكاب كبيرة ; ولكنه يزول عنه اسم الإيمان الواجب كما في الصحاح عنه صلى الله عليه وسلم { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } الحديث إلى آخره ففيهم من نقص الإيمان ما يوجب زوال الرأفة والرحمة بهم واستحقوا بتلك الشعبة من الشدة بقدر ما فيها ولا منافاة بين أن يكون الشخص الواحد يرحم ويحب من وجه ويعذب ويبغض من وجه آخر ويثاب من وجه ويعاقب من وجه فإن مذهب أهل السنة والجماعة أن الشخص الواحد يجتمع فيه الأمران خلافا لما يزعمه الخوارج ونحوهم من المعتزلة فإن عندهم أن من استحق العذاب من أهل القبلة لا يخرج من النار فأوجبوا خلود أهل التوحيد . وقال من استحق العذاب : لا يستحق الثواب .

                [ ص: 295 ] ولهذا جاء في السنة أن من أقيم عليه الحد والعقوبات ولم يأخذ المؤمنين به رأفة أن يرحم من وجه آخر فيحسن إليه ويدعى له وهذا الجانب أغلب في الشريعة كما أنه الغالب في صفة الرب سبحانه كما في الصحيحين : { إن الله كتب كتابا فهو موضوع عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي وفي رواية سبقت غضبي } وقال : { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم } { وأن عذابي هو العذاب الأليم } وقال : { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } فجعل الرحمة صفة له مذكورة في أسمائه الحسنى وأما العذاب والعقاب فجعلهما من مفعولاته غير مذكورين في أسمائه .

                ومن هذا الباب ما أمر الله به من الغلظة على الكفار والمنافقين فقال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } وقال : { لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } الآيات إلى قوله في قصة إبراهيم : { حتى تؤمنوا بالله وحده } وكذلك آخر المجادلة وقد ثبت في صحيح مسلم عن الحسن عن حطان بن عبد الله عن عبادة بن الصامت : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { خذوا عني : قد جعل الله لهن سبيلا : البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم } .

                وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد أنه صلى الله عليه وسلم [ ص: 296 ] : { اختصم إليه رجلان فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله . وقال الآخر - وهو أفقه منه - يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي : إن ابني كان عسيفا على هذا وإنه زنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة ووليدة وإني سألت أهل العلم فقالوا : على ابنك جلد مائة وتغريب عام فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأقضين بينكما بكتاب الله : أما المائة شاة والوليدة فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها } .

                فهذه المرأة أحد من رجمه النبي صلى الله عليه وسلم ورجم أيضا اليهوديين على باب مسجده ورجم ماعز بن مالك ورجم الغامدية . ورجم غير هؤلاء . وهذا الحديث يوافق ما في الآية من بيان السبيل الذي جعله الله لهن : وهو جلد مائة وتغريب عام في البكر وفي الثيب الرجم لكن الذي في هذا الحديث هو الجلد والنفي للبكر من الرجال وأما الآية ففيها ذكر الإمساك في البيوت للنساء خاصة ; ومن فقهاء العراق من لا يوجب مع الحد تغريبا ومنهم من يفرق بين الرجل والمرأة كما أن أكثرهم لا يوجبون مع رجم جلد مائة ومنهم من يوجبهما جميعا كما فعل علي بسراحة الهمدانية حيث جلدها ثم رجمها وقال : " جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة نبيه " [ ص: 297 ] رواه البخاري : وعن أحمد في ذلك روايتان .

                وهو سبحانه ذكر في سورة النساء ما يختص بالنساء من العقوبة بالإمساك في البيوت إلى الممات أو إلى جعل السبيل ثم ذكر ما يعم الصنفين فقال : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } فإن الأذى يتناول الصنفين وأما الإمساك فيختص بالنساء فالنساء يؤذين ويحبسن بخلاف الرجال فإنه لم يأمر فيهم بالحبس لأن المرأة يجب أن تصان وتحفظ بما لا يجب مثله في الرجل ولهذا خصت بالاحتجاب وترك إبداء الزينة وترك التبرج فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل . لأن ظهور النساء سبب الفتنة والرجال قوامون عليهن .

                وقوله { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } دل على شيئين : على أن نصاب الشهادة على الفاحشة أربعة وعلى أن الشهداء بها على نسائنا يجب أن يكونوا منا فلا تقبل شهادة الكفار على المسلمين وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع في قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض وفيه قولان عند أحمد : أشهرهما عنده وعند أصحابه أنها لا تقبل كمذهب مالك والشافعي . والثانية أنها تقبل اختارها أبو الخطاب من أصحاب أحمد وهو قول أبي حنيفة وهو أشبه بالكتاب والسنة . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { لا تجوز شهادة أهل ملة على أهل ملة إلا [ ص: 298 ] أمتي فإن شهادتهم تجوز على من سواهم } فإنه لم ينف شهادة أهل الملة الواحدة بعضها على بعض بل مفهوم ذلك جواز شهادة أهل الملة الواحدة بعضها على بعض ; ولكن فيه بيان أن المؤمنين تقبل شهادتهم على من سواهم لقوله تعالى { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس } وفي آخر الحج مثلها .

                وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يدعى نوح يوم القيامة فيقال له : هل بلغت ؟ فيقول : نعم فيدعى قومه فيقال هل بلغكم ؟ فيقولون : ما جاءنا من بشير ولا نذير فيقال لنوح : من يشهد لك فيقول : محمد وأمته فيؤتى بكم فتشهدون أنه بلغ } وكذلك في الصحيحين من حديث أنس في شهادتهم على تلك الجنازتين وأنهم أثنوا على إحداهما خيرا وعلى الأخرى شرا فقال : { أنتم شهداء الله في أرضه } الحديث .

                ولهذا لما كان أهل السنة والجماعة الذين محضوا الإسلام ولم يشوبوه بغيره كانت شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة بخلاف أهل البدع والأهواء كالخوارج والروافض فإن بينهم من العداوة والظلم ما يخرجهم عن كمال هذه الحقيقة التي جعلها الله لأهل السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم : { يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين } .

                [ ص: 299 ] وقد استدل من جوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض بهذه الآية التي في المائدة وهي قوله { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم } الآية ثم قال من أخذ بظاهر هذه الآية من أهل الكوفة : دلت هذه الآية على قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين فيكون في ذلك تنبيه ودلالة على قبول شهادة بعضهم على بعض بطريق الأولى ثم نسخ الظاهر لا يوجب نسخ الفحوى والتنبيه وهذه الآية الدالة على نصوص الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث الموافقين للسلف في العمل بهذه الآية وما يوافقها من الحديث أوجه وأقوى فإن مذهبه قبول شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر لأنه موضع ضرورة فإذا جازت شهادتهم لغيرهم فعلى بعضهم أجوز وأجوز .

                ولهذا يجوز في الشهادة للضرورة ما لا يجوز في غيرها كما تقبل شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال حتى نص أحمد على قبول شهادتهن في الحدود التي تكون في مجامعهن الخاصة . مثل الحمامات والعرسات ونحو ذلك . فالكفار الذين لا يختلط بهم المسلمون أولى أن تقبل شهادة بعضهم على بعض إذا حكمنا بينهم والله أمرنا أن نحكم بينهم والنبي صلى الله عليه وسلم رجم الزانيين من اليهود من غير سماع إقرار منهما ولا شهادة مسلم عليهما ولولا قبول شهادة بعضهم على بعض لم يجز ذلك والله أعلم .

                [ ص: 300 ] ثم إن في تولي مال بعضهم بعضا نزاع فهل يتولى الكافر العدل في دينه مال ولده الكافر ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره والصواب المقطوع به : أن بعضهم أولى ببعض وقد مضت سنة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وسنة خلفائه وقوله تعالى { فآذوهما } أمر بالأذى مطلقا ولم يذكر كيفيته وصفته ولا قدره بل ذكر أنه يجب إيذاؤهما ولفظ " الأذى " يستعمل في الأقوال كثيرا كقوله : { لن يضروكم إلا أذى } وقوله : { إن الذين يؤذون الله ورسوله } { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } { ومنهم الذين يؤذون النبي } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله } ونظائر ذلك كثيرة ذكرناها في " كتاب الصارم المسلول " . وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم في شارب الخمر { عاقبوه وآذوه } وقال { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } والإعراض هو الإمساك عن الإيذاء .

                فالمذنب لا يزال يؤذى وينهى ويوعظ ويوبخ ويغلظ له في الكلام إلى أن يتوب ويطيع الله وأدنى ذلك هجره فلا يكلم بالكلام الطيب كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون الثلاثة الذين خلفوا حتى ظهرت توبتهم وصلاحهم وهذه آية محكمة لا نسخ فيها فمن أتى الفاحشة من الرجال والنساء فإنه يجب إيذاؤه بالكلام الزاجر له عن المعصية إلى [ ص: 301 ] أن يتوب وليس ذلك محدودا بقدر ولا صفة إلا ما يكون زاجرا له داعيا إلى حصول المقصود وهو توبته وصلاحه وقد علقه تعالى على هذين الأمرين : التوبة والإصلاح . فإذا لم يوجدا فلا يجوز أن يكون الأمر بالإعراض موجودا فيؤذى والآية دلت على وجوب الإيذاء للذين يأتيان الفاحشة منا ودلت على وجوب الإعراض عن الأذى في حق من تاب وأصلح فأما من تاب بترك فعل الفاحشة ولم يصلح فقد تنازع الفقهاء هل يشترط في قبول التوبة صلاح العمل ؟ على قولين في مذهب أحمد وغيره .

                وهذه تشبه قوله تعالى { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } إلى قوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } فأمر بقتالهم ثم علق تخلية سبيلهم على التوبة والعمل الصالح : وهو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنهم إذا تكلموا بالشهادتين وجب الكف عنهم ثم إن صلوا وزكوا وإلا عوقبوا بعد ذلك على ترك الفعل ; لأن الشارع في التوبة شرع الكف عن أذاه ويكون الأمر فيه موقوفا على التمام وكذلك التائب من الفاحشة يشرع الكف عن أذاه إلى أن يصلح فإن أصلح وجب الإعراض عن أذاه وإن لم يصلح لم يجب الكف عن أذاه بل يجوز أو يجب أذاه .

                وهذه الآية مما يستدل بها على التعزير بالأذى والأذى وإن كان [ ص: 302 ] يستعمل كثيرا في الكلام في مرتكب الفاحشة فليس هو مختصا به كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن بصق في القبلة : { إنك قد آذيت الله ورسوله } . وكذلك قال في حق فاطمة ابنته { يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها } وكذلك قال لمن أكل الثوم والبصل : { إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم } وقال لصاحب السهام : { خذ بنصالها لئلا تؤذي أحدا من المسلمين } وقد قال تعالى : { فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي } .

                وقوله تعالى { فإن تابا وأصلحا } هل يكون من توبته اعترافه بالذنب فإذا ثبت الذنب بإقراره فجحد إقراره وكذب الشهود على إقراره أو ثبت بشهادة شهود هل يعد بذلك تائبا ؟ فيه نزاع فذكر الإمام أحمد أنه لا توبة لمن جحد وإنما التوبة لمن أقر وتاب واستدل بقصة علي بن أبي طالب أنه أتي بجماعة ممن شهد عليهم بالزندقة فاعترف منهم ناس فتابوا فقبل توبتهم وجحد منهم جماعة فقتلهم وقد { قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه } رواه البخاري .

                فمن أذنب سرا فليتب سرا وليس عليه أن يظهر ذنبه كما في الحديث : { من ابتلي بشيء من هذه القاذورات فليستتر بستر الله [ ص: 303 ] فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله } وفي الصحيح : { كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يبيت الرجل على الذنب قد ستره الله عليه فيكشف ستر الله عنه } فإذا ظهر من العبد الذنب فلا بد من ظهور التوبة ومع الجحود لا تظهر التوبة فإن الجاحد يزعم أنه غير مذنب ; ولهذا كان السلف يستعملون ذلك فيمن أظهر بدعة أو فجورا فإن هذا أظهر حال الضالين وهذا أظهر حال المغضوب عليهم ومن أذاه منعه - مع القدرة - من الإمامة والحكم والفتيا والرواية والشهادة وأما بدون القدرة فليفعل المقدور عليه .

                وقوله : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } فأمر بإيذائهما ولم يعلق ذلك على استشهاد أربعة كما علق ذلك في حق النساء وإمساكهن في البيوت ولم يأمر به هنا كما أمر به هناك ; وليس هذا من باب حمل المطلق على المقيد لأن ذلك لا بد أن يكون الحكم واحدا مثل الإعتاق فإذا كان الحكم متفقا في الجنس دون النوع كإطلاق الأيدي في التيمم وتقييدها في الوضوء إلى المرافق وإطلاق ستين مسكينا في الإطعام وتقييد الإعتاق بالإيمان مع أن كلاهما عبادة مالية يراد بها نفع الخلق وفي ذلك نزاع بين العلماء .

                ولم يحمل المسلمون من الصحابة والتابعين المطلق على المقيد في قوله : { وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن } الآية : وقوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف } قال الصحابة والتابعون وسائر أئمة الدين : الشرط في الربائب خاصة وقالوا : أبهموا ما أبهم الله والمبهم هو المطلق والمشروط فيه هو المؤقت المقيد فأمهات النساء وحلائل الآباء والأبناء يحرمن بالعقد والربائب لا يحرمن إلا إذا دخل بأمهاتهن ; لكن تنازعوا هل الموت كالدخول ؟ على قولين في مذهب أحمد وذلك لأن الحكم مختلف والقيد ليس متساويا في الأعيان ; فإن تحريم جنس ليس مثل تحريم جنس آخر يخالفه كما أن تحريم الدم والميتة ولحم الخنزير لما كان أجناسا فليس تقييد الدم بكونه مسفوحا يوجب تقييد الميتة والخنزير أن يكون مسفوحا وهنا القيد كون الربيبة مدخولا بأمها والدخول بالأم لا يوجد مثله في الحليلتين وأم المرأة ; إذ الدخول في الحليلة بها نفسها وفي أم المرأة ببنتها .

                وكذلك المسلمون لم يحملوا المطلق على المقيد في نصب الشهادة ; بل لما ذكر الله في آية الدين رجلين أو رجلا وامرأتين وفي الرجعة رجلين أقروا كلا منهما على حاله ; لأن سبب الحكم مختلف وهو المال والبضع واختلاف السبب يؤثر في نصاب الشهادة وكما في إقامة الحد في الفاحشة وفي القذف بها اعتبر فيه أربعة شهداء فلا يقاس بذلك عقود الأيمان والأبضاع وذكر في حد القذف ثلاثة أحكام : [ ص: 305 ] جلد ثمانين وترك قبول شهادتهم أبدا وإنهم فاسقون { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } وأن التوبة لا ترفع الجلد إذا طلبه المقذوف وترفع الفسق بلا تردد وهل ترفع المنع من قبول الشهادة ؟ فأكثر العلماء قالوا ترفعه .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية