الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وإذا كان الأمر كذلك فيقال لمن يلتزم منهم نفي الصانع ويقول: أنا أقول إنه قديم واجب بنفسه، لئلا يلزمني هذا المحذور الذي ذكرتموه في صدوره عن فاعل قديم -كما قد يقوله بعض الصفاتية إذا ضاقت عليهم الحجج في مسألة العرش والقرآن، والرؤية وغيرها نحن نلتزم قول المعتزلة بنفي الصفات مطلقا- فإنه يقال لهذا الدهري: إذا كنت تجوز في عقلك وجود هذه الأفلاك قديمة أزلية واجبة الوجود أو حادثة بذاتها، فإنها إذا لم تكن مفعولة لغيرها، فإما أن تكون قديمة بنفسها أو حادثة بنفسها، فإذا جوزت ذلك بلا زمان ولا مكان، ولا من مادة [ ص: 450 ] ولا عن خالق، لأن في إثبات الخالق، إثبات صدور عن فاعل قديم أو حدوثها عنه بلا زمان ولا مكان ولا من مادة، وهذا خلاف ما يشهد من صدور الأجسام عن غيرها أو حدوثها، فإن تجويز وجوبها بنفسها وقدمها، أو حدوثها بنفسها بلا فاعل، أبعد عن المشهود والمحسوس والمعقول، من صدورها عن فاعل بلا مادة ولا مكان ولا من زمان؛ فإن المشهودات صادرة في مكان وزمان، ومن مادة، وعن فاعل في الجملة، وإن سميتموه طبيعة أو قوى فلكية أو غير ذلك، فإنكم لا يمكنكم إنكار الأسباب الحادثة المحسوسة، فإذا جوزتم وجود ذلك في غير زمان ولا مكان ولا من مادة ولا بفاعل، كان ذلك أبعد عن المحسوس والمعقول مما فررتم منه، وإذا قلتم ذلك قديم واجب الوجود بنفسه، كان ما يلزمكم في هذا من المحذورات أعظم بكثير، مما يلزمكم من الاعتراف بصانع لها قديم واجب الوجود، فإنكم مهما أوردتموه في ثبوته حينئذ من كونه يستلزم أن يكون محلا للصفات والأفعال ونحو ذلك، فإن ذلك يلزمكم أعظم منه إذا قلتم: بأن الأفلاك قديمة واجبة الوجود بنفسها، وإن قدر أن قائلا يقول: إنها حدثت بأنفسها. فهذا أعظم إحالة. وهذا مما ينبغي التفطن له، فكل ما يقوله الدهرية من نفاة [ ص: 451 ] الصانع ومن مثبتيه من الشبهة النافية لوجوده أو لفعله، فإنه يلزمهم أعظم منه على قولهم: بأن العالم قديم واجب الوجود بنفسه، مستغن عن صانع، وقولهم: بأنه معلول عن علة موجبة. فتدبر هذا.

وأصل ذلك أن الله ليس كمثله شيء، لا في نفسه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا مفعولاته؛ فإذا رام الإنسان أن ينفي شيئا ما يستحقه، لعدم نظيره في الشاهد، كان ما يثبته بدون الذي نفاه أبعد عن المشهود: مثل أن يثبت الصفات بلا حقيقة الذات، أو الذات بلا صفات، أو يثبتهما بدون فعل يقوم بنفسه؛ أو يثبت ذلك لازما لذاته، أو يقول: إن هذا المحسوس هو القديم الواجب الوجود بنفسه، أو يقول حدث بنفسه. فكل هذه المقالات النافية يلزم كل قول منها من المعارضات أعظم مما أورده هو على أقوال المثبتين، فلا خلاص عنها بحال، إذ الوجود مشهود محسوس، ولا يخلو إما أن يكون قديما واجبا بنفسه، أو محدثا بإحداث غيره، وممكنا ومفتقرا إلى واجب بنفسه، وإذا كان لا بد من الاعتراف بالوجود القديم الواجب، وكان من نفي الرب الصانع الخالق السموات والأرض لشبهة يذكرها، يلزمه مع هذا هي، وما هو أعظم منها، علم أن كل ما يذكره النفاة من الشبهة النافية للرب أو صفاته أو أفعاله حجج باطلة متناقضة؛ إذ كان يلزم من صحتها نفي الوجود بالكلية، وما استلزم نفي [ ص: 452 ] الوجود بالكلية علم أنه باطل.

التالي السابق


الخدمات العلمية