الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) .

                                                                                                                                                                                                                                            في قوله : ( فإن كذبوك ) وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : فإن كذبوك في قولك إن الأنبياء المتقدمين جاءوا إلى هؤلاء اليهود بالقربان الذي تأكله النار فكذبوهم وقتلوهم ، فقد كذب رسل من قبلك : نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن المراد : إن كذبوك في أصل النبوة والشريعة فقد كذب رسل من قبلك ، ولعل هذا الوجه أوجه ، لأنه تعالى لم يخصص ، ولأن تكذيبهم في أصل النبوة أعظم ، ولأنه يدخل تحته التكذيب في ذلك الحجاج . والمقصود من هذا الكلام تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبيان أن هذا التكذيب ليس أمرا مختصا به من بين سائر الأنبياء ، بل شأن جميع الكفار تكذيب جميع الأنبياء والطعن فيهم ، مع أن حالهم في ظهور المعجزات عليهم وفي نزول الكتب إليهم كحالك ، ومع هذا فإنهم صبروا على ما نالهم من أولئك الأمم واحتملوا إيذاءهم في جنب تأدية الرسالة ، فكن متأسيا بهم سالكا مثل طريقتهم في هذا المعنى ، وإنما صار ذلك تسلية لأن المصيبة إذا عمت طابت وخفت ، فأما البينات فهي الحجج والمعجزات ، وأما الزبر فهي الكتب ، وهي جمع زبور ، والزبور الكتاب ، بمعنى المزبور أي المكتوب ، يقال زبرت الكتاب أي كتبته ، وكل كتاب زبور . قال الزجاج : الزبور كل كتاب ذي حكمة ، وعلى هذا : [ ص: 101 ] الأشبه أن يكون معنى الزبور من الزبر الذي هو الزجر ، يقال : زبرت الرجل إذا زجرته عن الباطل ، وسمي الكتاب زبورا لما فيه من الزبر عن خلاف الحق ، وبه سمي زبور داود لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ . وقرأ ابن عباس " وبالزبر " أعاد الباء للتأكيد ، وأما "المنير" فهو من قولك أنرت الشيء أي أوضحته ، وفي الآية مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : المراد من البينات المعجزات ، ثم عطف عليها الزبر والكتاب ، وهذا يقتضي أن يقال إن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم ، وذلك يدل على أن أحدا من الأنبياء ما كانت كتبهم معجزة لهم ، فالتوراة والإنجيل والزبور والصحف ما كان شيء منها معجزة ، وأما القرآن فهو وحده كتاب ومعجزة ، وهذا أحد خواص الرسول عليه الصلاة والسلام .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : عطف " الكتاب المنير " على " الزبر " مع أن الكتاب المنير لا بد وأن يكون من الزبر ، وإنما حسن هذا العطف لأن الكتاب المنير أشرف الكتب وأحسن الزبر ، فحسن العطف كما في قوله : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) [ الأحزاب : 7 ] وقال : ( من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) [ البقرة : 98 ] ووجه زيادة الشرف فيه إما كونه مشتملا على جميع الشريعة ، أو كونه باقيا على وجه الدهر ، ويحتمل أن يكون المراد بالزبر : الصحف ، وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية