الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن هذا من جملة ما دخل تحت قوله : ( ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) فبين تعالى أن من جملة أنواع هذا الأذى أنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخبث والتلبيس على ضعفة المسلمين ، ويحبون أن يحمدوا بأنهم أهل البر والتقوى والصدق والديانة ، ولا شك أن الإنسان يتأذى بمشاهدة مثل هذه الأحوال ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمصابرة عليها ، وبين ما لهم من الوعيد الشديد . وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حمزة وعاصم والكسائي بالتاء المنقطة من فوق ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر بالياء المنقطة من تحت ، وكذا في قوله : ( فلا تحسبنهم ) أما القراءة الأولى ففيها وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدهما : أن يقرأ كلاهما بفتح الباء .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يقرأ كلاهما بضم الباء ، فمن قرأ بالتاء وفتح الباء فيهما جعل التقدير : لا تحسبن يا محمد ، أو أيها السامع ، ومن ضم الباء فيهما جعل الخطاب للمؤمنين ، وجعل أحد المفعولين " الذين يفرحون " ، والثاني : " بمفازة " وقوله : ( فلا تحسبنهم بمفازة ) تأكيد للأول ، وحسنت إعادته لطول الكلام ، كقولك : لا تظن زيدا إذا جاءك وكلمك في كذا وكذا فلا تظنه صادقا ، وأما القراءة الثانية وهي بالياء المنقطة من تحت في قوله : " لا يحسبن " ففيها أيضا وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : بفتح الباء وبضمها فيهما ، جعل الفعل للرسول صلى الله عليه وسلم والباقي كما علمت .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : بفتح الباء في الأول وضمها في الثاني وهو قراءة أبي عمرو ، ووجهه أنه جعل الفعل للذين يفرحون ولم يذكر واحدا من مفعوليه ، ثم أعاد قوله : " فلا تحسبن " بضم الباء ، وقوله : ( هم ) رفع بإسناد الفعل إليه ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : ولا تحسبن هؤلاء الذين يفرحون أنفسهم بمفازة من العذاب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بفعلهم ويحبون أيضا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، والمفسرون ذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن هؤلاء اليهود يحرفون نصوص التوراة ويفسرونها بتفسيرات باطلة ويروجونها على الأغمار من الناس ، ويفرحون بهذا الصنع ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والديانة والعفاف والصدق والبعد عن الكذب ، وهو قول ابن عباس ، وأنت إذا أنصفت عرفت أن أحوال أكثر الخلق كذلك ، فإنهم يأتون بجميع وجوه الحيل في تحصيل الدنيا ويفرحون بوجدان [ ص: 108 ] مطلوبهم ، ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العفاف والصدق والدين .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل اليهود عن شيء مما في التوراة فكتموا الحق وأخبروا بخلافه ، وأروه أنهم قد صدقوه وفرحوا بذلك التلبيس ، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يثني عليهم بذلك ، فأطلع الله رسوله على هذا السر . والمعنى أن هؤلاء اليهود فرحوا بما فعلوا من التلبيس وتوقعوا منك أن تثني عليهم بالصدق والوفاء .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : يفرحون بما فعلوا من كتمان النصوص الدالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من اتباع دين إبراهيم ، حيث ادعوا أن إبراهيم عليه السلام كان على اليهودية وأنهم على دينه .

                                                                                                                                                                                                                                            الرابع : أنه نزل في المنافقين فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين على سبيل النفاق من حيث إنهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا ، ثم كانوا يتوقعون من النبي عليه الصلاة والسلام أن يحمدهم على الإيمان الذي ما كان موجودا في قلوبهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الخامس : قال أبو سعيد الخدري : نزلت في رجال من المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو ، ويفرحون بقعودهم عنه فإذا قدم اعتذروا إليه فيقبل عذرهم ، ثم طمعوا أن يثني عليهم كما كان يثني على المسلمين المجاهدين .

                                                                                                                                                                                                                                            السادس : المراد منه كتمانهم ما في التوراة من أخذ الميثاق عليهم بالاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وبالإقرار بنبوته ودينه ، ثم إنهم فرحوا بكتمانهم لذلك وإعراضهم عن نصوص الله تعالى ، ثم زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقالوا : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الأولى أن يحمل على الكل ، لأن جميع هذه الأمور مشتركة في قدر واحد ، وهو أن الإنسان يأتي بالفعل الذي لا ينبغي ويفرح به ، ثم يتوقع من الناس أن يصفوه بسداد السيرة واستقامة الطريقة والزهد والإقبال على طاعة الله .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في قوله : ( بما أتوا ) بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : قال الفراء : قوله : ( بما أتوا ) يريد فعلوه كقوله : ( واللذان يأتيانها منكم ) [ النساء : 16 ] وقوله : ( لقد جئت شيئا فريا ) [ مريم : 27 ] أي فعلت . قال صاحب الكشاف : أتى وجاء ، يستعملان بمعنى فعل ، قال تعالى : ( إنه كان وعده مأتيا ) [ مريم : 61 ] . ( لقد جئت شيئا فريا ) [ مريم : 27 ] ويدل عليه قراءة أبي " يفرحون بما فعلوا " .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : قرئ آتوا بمعنى أعطوا ، وعن علي رضي الله عنه " بما أوتوا " .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله : ( بمفازة من العذاب ) أي بمنجاة منه ، من قولهم : فاز فلان إذا نجا ، وقال الفراء : أي ببعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه ، وذكر ذلك في قوله : ( فقد فاز ) [ آل عمران : 185 ] ثم حقق ذلك بقوله : ( ولهم عذاب أليم ) ولا شبهة أن الآية واردة في الكفار والمنافقين الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذاهم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير ) أي لهم عذاب أليم ممن له ملك السماوات والأرض ، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية