الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 355 ] ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها جاء عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه إلى واسط ومعه وزير أبيه أبو الفتح بن العميد ، فهرب منه أفتكين في جماعة الأتراك إلى بغداد فسار وراءهم ، فنزل بالجانب الشرقي ، وأمر بختيار أن ينزل على الجانب الغربي ، وحصر الترك حصرا شديدا ، وأمر أمراء الأعراب أن يغيروا على الأطراف ، ويقطعوا الميرة الواصلة إلى بغداد فغلت الأسعار ببغداد جدا ، وامتنع الناس من المعاش من كثرة العيارين والنهب ، وكبس أفتكين البيوت لطلب الطعام ، واشتد الحال جدا ، ثم التقت الأتراك وعضد الدولة ، فكسرهم وهربوا إلى تكريت واستحوذ عضد الدولة على بغداد وما والاها من البلاد ، وكانت الترك قد أخرجوا معهم الخليفة ، فرده عضد الدولة إلى دار الخلافة مكرما ، ونزل هو بدار الملك ، فضعف أمر بختيار جدا ، ولم يبق معه شيء بالكلية ، فأغلق بابه وطرد الحجبة والكتبة عن بابه ، واستعفى عن الإمارة وكان ذلك بمشورة عضد الدولة ، فاستعطفه عضد الدولة في الظاهر ، وقد أشار عليه في الباطن أن لا يقبل ، فلم يقبل .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وترددت الرسل بينهما ، فصمم بختيار على الامتناع ظاهرا ، فألزمه عضد الدولة بذلك ، وأظهر للناس أنه إنما يفعل هذا عجزا منه عن القيام بأعباء الملك [ ص: 356 ] فأمر بالقبض على بختيار وعلى أهله وإخوته ، ففرح بذلك الخليفة الطائع لله وسر به ، وأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان دارسا ، وجدد دار الخلافة حتى صار كل محل منها آنسا ، وأرسل إلى الخليفة بالأموال الكثيرة والأمتعة الحسنة ، وقتل جماعة المفسدين من مردة الترك وشطار العيارين .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن الجوزي : وفي هذه السنة عظم البلاء بالعيارين ببغداد ، وأحرقوا سوق باب الشعير ، وأخذوا أموالا كثيرة ، وركبوا الخيول ، وتلقبوا بالقواد ، وأخذوا الخفر من الأسواق والدروب ، وعظمت المحنة بهم جدا ، واستفحل أمرهم كثيرا ، حتى إن رجلا منهم أسود كان مستضعفا نجم فيهم وكثر ماله حتى اشترى جارية بألف دينار ، فلما حصلت عنده حاولها عن نفسها فأبت عليه ، فقال لها : ماذا تكرهين مني ؟ قالت : أكرهك كلك ، فقال : فما تحبين ؟ فقالت : تبيعني ، فقال : أوخير من ذلك ؟ فحملها إلى القاضي ، فأعتقها ، وأعطاها ألف دينار وأطلقها ، فتعجب الناس من حلمه وكرمه مع فسقه وتمرده .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وورد الخبر في المحرم بأنه خطب للمعز الفاطمي بمكة والمدينة في الموسم ، ولم يخطب للطائع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وفي رجب منها غلت الأسعار ببغداد جدا حتى بيع الكر الدقيق الحوارى بمائة ونيف وسبعين دينارا .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 357 ] قال : وفيها اضمحل أمر عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه ، وتفرق جنده عنه ، ولم يبق معه سوى بغداد وحدها ، فبعث إلى أبيه يشكو له ذلك ، فأرسل يلومه على الغدر بابن عمه عز الدولة ، فلما بلغه ذلك خرج من بغداد إلى فارس بعدما أخرج ابن عمه بختيار من السجن ، وخلع عليه ، وأعاده إلى ما كان عليه ، وشرط عليه أن يكون نائبا له بالعراق يخطب له بها ، وجعل معه أخاه أبا إسحاق أمير الجيوش لضعف بختيار عن تدبير الأمور ، واستمر ذاهبا إلى بلاد فارس وذلك كله عن أمر أبيه له بذلك ، وغضبه عليه بسبب غدره بابن عمه ، وتكرار مكاتباته إليه في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      ولما سار عضد الدولة ترك بعده وزير أبيه أبا الفتح بن العميد ليلحقه بعد ثلاث ، فتشاغل بالقصف مع عز الدولة واللعب واللهو ، فأوجب ذلك وحشة بين عضد الدولة وبين ابن العميد ، فكان ذلك سبب هلاك ابن العميد ، ولما استقر عز الدولة بختيار ببغداد وملك العراق لم يف لابن عمه عضد الدولة بشيء مما كان عاهده عليه ، ولا ما كان التزم له به بين يديه ، بل تمادى في ضلاله القديم ، واستمر على سننه الذي هو غير مستقيم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      قال : وفي يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة تزوج الخليفة الطائع لله شاه ناز بنت عز الدولة على صداق مائة ألف دينار .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 358 ] وفي سلخ ذي القعدة عزل القاضي أبو الحسن محمد بن صالح بن أم شيبان ، وقلده أبو محمد بن معروف .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأقام الحج في هذه السنة أصحاب المعز الفاطمي ، وخطب له بالحرمين الشريفين دون الخليفة الطائع ، والله سبحانه أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية