الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن الوجود - كله عقلاء وغير عقلاء - خاضعون له طوعا وكرها، فقال تعالى: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال

                                                          بعد أن بين سبحانه وتعالى بطلان الشرك، وضرب الأمثال على ذلك، وهي أمثال على عظمة البيان القرآني الذي لا يسامى، ولا يناهد، أخذ يبين سبحانه وتعالى خضوع الوجود كله له سبحانه، والانقياد له سبحانه، فقال تعالت كلماته: ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها والمراد من السجود في ظاهر القرآن، وكما قرر أكثر العلماء الخضوع وتسخير الله سبحانه وتعالى له، وبذلك يكون المعنى خضوع الموجودات كلها لإرادته سبحانه وتعالى، فالرياح تسير بأمره، والكواكب والنجوم مسخرات بأمره.

                                                          وإذا كان المراد من السجود لازمه وهو الانقياد، يكون التعبير من قبيل المجاز المرسل حيث أطلق السجود وأراد لازمه.

                                                          وإذا كان المراد الخضوع والانقياد فإن فيهم العقلاء وغير العقلاء، وقد نص على الظلال بالغدو والآصال، ولا تعد من العقلاء التي تخاطب، فلماذا عبر بـ (من) التي تدل على العقلاء؟ ونقول: إن ذلك من قبيل تغليب العقلاء على غيرهم، كما يعبر بجمع المذكر السالم على الذكور والإناث تغليبا للذكور العقلاء على غيرهم، وقد تطلق (من) على العموم، ولو لم يكن في مضمونها عاقل وغير عاقل. وذلك كما في قوله تعالى: والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير [ ص: 3919 ]

                                                          وإن كل شيء يسجد لله تعالى حتى الظلال بالغدو والآصال، فهي أيضا تسجد خاضعة لله تعالى منقادة له سبحانه، وذكرت مع أنها تابعة لأشخاصها، وذلك للإشارة إلى أن أولئك المشركين خاضعون منقادون حتى ظلالهم التي تلازمهم، ويقال: فلان ألزم لفلان من ظله، فالوجود كله تابع ومتبوع، ملازم وغير ملازم، خاضع لله تعالى، والغدو جمع غداة، كالقنو جمع قناة، والغدو مصدر.

                                                          ويصح أن نقول: إن ذكر الغدو والآصال توجيه النظر إلى مظهرها في طول الظل وقصره، بين الغدو في الصباح والآصال، وهي جمع أصيل، وكيف أنه في الصباح غير مرتفع، ثم يرتفع شيئا فشيئا حتى يكون عموديا على الأرض في وقت الزوال، ثم ينحدر من بعد الزوال إلى الغروب، فيعود منخفضا نحو الأرض، وتصفر الشمس، وإن من وراء ذلك التغيير المستمر الدائم اتصال الشمس بالأرض، ووجود الحرارة في ارتفاعها فيكون الدفء، وفي انخفاضها فيكون البرد، ثم ما يكون للظلال من أثر، فتنبت الزرع وتنميه، حتى يستغلظ سوقه، ويعجب الزراع وهكذا.

                                                          وذكر الوقتين وهما الغدو والآصال; لأنهما الوقتان اللذان يختلف فيهما الطول والعرض; ولأن الغدوة تشرق فيها الشمس على الوجود فتمده بكل أسباب القوة والنماء للأحياء; ولأن الأصيل هو الوقت الذي تؤذن فيه الشمس بزوال، والله على كل شيء قدير.

                                                          وننبه هنا إلى أمرين:

                                                          الأمر الأول: أن كلمتي طوعا وكرها تدل على عموم السجود في حالي الطوع والاختيار والكره والاضطرار، وهذا دليل على كمال السلطان لله تعالى.

                                                          الأمر الثاني: أن بعض المفسرين قال: إن المراد من السجود سجود الصلاة، ومعنى الطوع الملائكة والدخول في الإسلام طوعا، ومعنى كرها: الدخول في الإسلام بعد الحرب نفاقا أو ضعفا، ولكن ذلك ليس بظاهر السياق. أولا لعموم من السماوات والأرض، والمناسب لذلك أن يكون الخضوع للوجود كله. [ ص: 3920 ]

                                                          وثانيا: فإن الكلمة السامية وظلالهم بالغدو والآصال تعين أن يكون الواضح السجود بمعنى الخضوع.

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية