الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( سورة التغابن مدنية وهي ثماني عشرة آية )

( بسم الله الرحمن الرحيم )

( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم . التغابن : تفاعل من الغبن وليس من اثنين ، بل هو من واحد ، كتواضع وتحامل . والغبن : أخذ الشيء بدون قيمته ، أو بيعه كذلك . وقيل : الغبن الإخفاء [ ص: 276 ] ومنه غبن البيع لاستخفائه ، ويقال : غبنت الثوب وخبنته ، إذا أخذت ما طال منه عن مقدارك ، فمعناه النقص .

يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم .

هذه السورة مدنية في قول الأكثرين . وقال ابن عباس وغيره : مكية إلا آيات من آخرها : ياأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم إلخ نزلت بالمدينة . وقال الكلبي : مدنية ومكية . ومناسبة هذه السورة لما قبلها أن ما قبلها مشتمل على حال المنافقين ، وفي آخرها خطاب المؤمنين ، فأتبعه بما يناسبه من قوله : هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن هذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين لقوله : كل مولود يولد على الفطرة وقوله تعالى : فطرة الله التي فطر الناس عليها . وقيل : ذانك في أصل الخلقة ، بدليل ما في حديث النطفة من قول الملك : أشقي أم سعيد ؟ والغلام الذي قتله الخضر - عليه السلام - أنه طبع يوم طبع كافرا . وما روى ابن مسعود أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : خلق الله فرعون في البطن كافرا . وحكى يحيى بن زكريا : في البطن مؤمنا . وعن عطاء بن أبي رباح : فمنكم كافر [ ص: 277 ] بالله ( مؤمن ) بالكوكب ، ومؤمن بالله وكافر بالكوكب . وقدم الكافر لكثرته . ألا ترى إلى قوله تعالى : وقليل من عبادي الشكور ؟ وحين ذكر الصالحين قال : وقليل ما هم . وقال الزمخشري : فمنكم آت بالكفر وفاعل له ، ومنكم آت بالإيمان وفاعل له ، كقوله - تعالى - : وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون والدليل عليه قوله - تعالى - : والله بما تعملون بصير أي : عالم بكفركم وإيمانكم اللذين هما من قبلكم ، والمعنى : هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد عن العدم ، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح ، وتكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . وقال أيضا : وقيل : هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق ، هم الدهرية ومنكم مؤمن به . وعن الحسن : في الكلام حذف دل عليه تقديره : ومنكم فاسق ، وكأنه من كذب المعتزلة على الحسن . وتقدم الجار والمجرور في قوله : له الملك وله الحمد قال الزمخشري : ليدل بتقدمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله - عز وجل - وذلك لأن الملك على الحقيقة له ; لأنه مبدئ كل شيء ومبدعه ، والقائم به المهيمن عليه وكذلك الحمد ; لأن أصول النعم وفروعها منه . وأما ملك غيره فتسليط منه ، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده .

وقرأ الجمهور : ( صوركم ) بضم الصاد ، و زيد بن علي وأبو رزين : بكسرها ، والقياس الضم ، وهذا تعديد للنعمة في حسن الخلقة ; لأن أعضاء بني آدم متصرفة بجميع ما تتصرف فيه أعضاء الحيوان ، وبزيادة كثيرة فضل بها . ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح ، كما قال - تعالى - : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . وقيل : النعمة هنا إنما هي صورة الإنسان من حيث هو إنسان مدرك عاقل ، فهذا هو الذي حسن له حتى لحقته كمالات كثيرة ، وتكاد العرب لا تعرف الصورة إلا الشكل ، لا المعنى القائم بالصورة . ونبه - تعالى - بعلمه بما في السماوات والأرض ، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه ، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه - تعالى - لا يغيب عن علمه شيء ، لا من الكليات ولا من الجزئيات ، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله ، ثم بخاص العباد من سرهم وإعلانهم ، ثم ما خص منه ، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها ، وهذا كله في معنى الوعيد ، إذ هو - تعالى - المجازي على جميع ذلك بالثواب والعقاب . وقرأ الجمهور : ما تسرون وما تعلنون بتاء الخطاب . و عبيد عن أبي عمرو ، و أبان عن عاصم : بالياء .

ألم يأتكم الخطاب لقريش ، ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد و ثمود و قوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة براءة وغيرها ، وقد سمعت قريش أخبارهم . فذاقوا وبال أمرهم أي : مكروههم وما يسوؤهم منه . ( ذلك ) أي : الوبال ( بأنه ) أي : بأن الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله - تعالى - من البشر رسولا ، كما استبعدت قريش ، فقالوا على سبيل الاستغراب : أبشر يهدوننا وذلك أنهم يقولون : نحن متساوون في البشرية ، فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا ؟ وارتفع ( أبشر ) عند الحوفي وابن عطية على الابتداء ، والخبر ( يهدوننا ) والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية ; لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل ، فالمسألة من باب الاشتغال . ( فكفروا ) : العطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات ، أي : لم ينظروا في تلك البينات ولا تأملوها ، بل عقبوا مجيئها بالكفر واستغنى الله استفعل بمعنى الفعل المجرد ، وغناه - تعالى - أزلي ، فالمعنى : أنه ظهر تعالى غناه عنهم إذ أهلكهم . وليست استفعل هنا للطلب . وقال الزمخشري : معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . والزعم : تقدم تفسيره ، " والذين كفروا " أهل مكة ، و " بلى " إثبات لما بعد حرف النفي وذلك على الله يسير أي : لا يصرفه عنه صارف .

فآمنوا بالله ورسوله وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - والنور الذي أنزلنا هو [ ص: 278 ] القرآن ، وانتصب يوم يجمعكم بقوله : ( لتنبؤن ) أو بخبير ، بما فيه من معنى الوعيد والجزاء ، أو بـ ( اذكر ) مضمرة ، قاله الزمخشري . والأول عن النحاس ، والثاني عن الحوفي . وقرأ الجمهور : " يجمعكم " بالياء وضم العين . وروي عنه سكونها وإشمامها الضم . و سلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي : بالنون . ليوم الجمع يجمع فيه الأولون والآخرون ، وذلك أن كل واحد يبعث طامعا في الخلاص ورفع المنزلة . ذلك يوم التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة ، وهو أن يغبن بعضهم بعضا ; لأن السعداء نزلوا منازل الأشقياء لو كانوا سعداء ، ونزل الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء ، وفي الحديث : " ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا ، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة " . وذلك معنى يوم التغابن . وعن مجاهد وغيره : إذا وقع الجزاء ، غبن المؤمنون الكافرين ; لأنهم يجوزون الجنة وتحصل الكفار في النار . وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل ، عن عاصم وزيد بن علي والحسن ، بخلاف عنه : نكفر وندخله ، بالنون فيهما . والأعمش وعيسى والحسن وباقي السبعة بالياء فيهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية