الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ) .

                          [ ص: 168 ] وردت هذه الآيات في الإذن بالقتال للمحرمين في الأشهر الحرم إذا فوجئوا بالقتال بغيا وعدوانا ، فهي متصلة بما قبلها أتم الاتصال ; لأن الآية السابقة بينت أن الأهلة مواقيت للناس في عباداتهم ومعاملاتهم عامة وفي الحج خاصة . وهو في أشهر هلالية مخصوصة كان القتال فيها محرما في الجاهلية . وأخرج الواحدي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صد عن البيت ثم صالحه المشركون ، فرضي على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام يطوف ويفعل ما يشاء ، فلما كان العام القابل ، تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ألا تفي لهم قريش وأن يصدوهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم ، وكره أصحابه قتالهم في الحرم والشهر الحرام ; فأنزل الله تعالى ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) يقول : أيها المؤمنون الذين تخافون أن يمنعكم مشركو مكة عن زيارة بيت الله والاعتمار فيه نكثا منهم للعهد وفتنة لكم في الدين ، وتكرهون أن تدافعوا عن أنفسكم بقتالهم في الإحرام والشهر الحرام ، إنني أذنت لكم في القتال على أنه دفاع في سبيل الله للتمكن من عبادته في بيته وتربية لمن يفتنكم عن دينكم وينكث عهدكم ، لا لحظوظ النفس وأهوائها ، والضراوة بحب التسافك ، فقاتلوا في هذه السبيل الشريفة من يقاتلكم ( ولا تعتدوا ) بالقتال فتبدءوهم ، ولا في القتال فتقتلوا من لا يقاتل كالنساء والصبيان والشيوخ والمرضى ، أو من ألقى إليكم السلم وكف عن حربكم ، ولا بغير ذلك من أنواع الاعتداء كالتخريب وقطع الأشجار ، وقد قالوا : إن الفعل المنفي يفيد العموم .

                          علل الإذن بأنه مدافعة في سبيل الله وسيأتي تفصيله في الآية التالية ، وعلل النهي بقوله : ( إن الله لا يحب المعتدين ) أي : إن الاعتداء من السيئات المكروهة عند الله تعالى لذاتها فكيف إذا كان في حال الإحرام ، وفي أرض الحرم والشهر الحرام ؟ ثم قال :

                          ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) أي : إذا نشب القتال فاقتلوهم أينما أدركتموهم وصادفتموهم ولا يصدنكم عنهم أنكم في أرض الحرم إلا ما يستثنى في الآية بشرطه ( وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ) أي : من المكان الذي أخرجوكم منه وهو مكة ; فقد كان المشركون أخرجوا النبي وأصحابه المهاجرين منها بما كانوا يفتنونهم في دينهم ، ثم صدوهم عن دخولها لأجل العبادة ، فرضي النبي والمؤمنون على شرط أن يسمحوا لهم في العام القابل بدخولها ، لأجل النسك والإقامة فيها ثلاثة أيام كما تقدم ، فلم يكن من المشركين إلا أن نقضوا العهد ، أليس من رحمة الله تعالى بعباده أن يقوي هؤلاء المؤمنين ويأذن لهم بأن يعودوا إلى وطنهم ناسكين مسالمين ، وأن يقاوموا من يصدهم عنه من أولئك المشركين الخائنين ؟ وهل يصح أن يقال فيهم إنهم أقاموا دينهم بالسيف والقوة دون الإرشاد والدعوة ؟ كلا . لا يقول [ ص: 169 ] هذا إلا غر جاهل ، أو عدو متجاهل . ثم زاد التعليل بيانا فقال : ( والفتنة أشد من القتل ) أي : إن فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب ، والإخراج من الوطن ، والمصادرة في المال ، أشد قبحا من القتل ; إذ لا بلاء على الإنسان أشد من إيذائه واضطهاده وتعذيبه على اعتقاده الذي تمكن من عقله ونفسه ، ورآه سعادة له في عاقبة أمره . والفتنة في الأصل : مصدر ، فتن الصائغ الذهب والفضة إذا أذابهما بالنار ليستخرج الزغل منهما . ويسمى الحجر الذي يختبرهما به أيضا فتانة ( كجبانة ) ثم استعملت الفتنة في كل اختبار شاق ، وأشده الفتنة في الدين وعن الدين ، ومنه قوله تعالى : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ( 29 : 2 ) وغير ذلك من الآيات .

                          وما تقرر في هذه الآيات على هذا الوجه مطابق لقوله تعالى في سورة الحج : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) ( 22 : 39 ، 40 ) الآيات . وهي أول ما نزل من القرآن في شرع القتال معللا بسببه مقيدا بشروطه العادلة .

                          وفسر بعضهم الفتنة هنا وفي الآية الآتية بالشرك وجرى عليه ( الجلال ) ، ورده الأستاذ الإمام بأنه يخرج الآيات عن سياقها ، وذكره البيضاوي هنا بصيغة التضعيف . ( قيل ) : ورد قولهم أيضا أن هذه الآية ناسخة لما قبلها ، وذلك أنه كبر على هؤلاء أن يكون الإذن بالقتال مشروطا لاعتداء المشركين ، ولأجل أمن المؤمنين في الدين ، وأرادوا أن يجعلوه مطلوبا لذاته . وقال : إن هذه الآيات نزلت مرة واحدة في نسق واحد وقصة واحدة فلا معنى لكون بعضها ناسخا للآخر ، وأما ما يؤخذ من العمومات فيها بحكم أن القرآن شرع ثابت عام فذلك شيء آخر .

                          ثم استثنى من الأمر بقتل هؤلاء المحاربين في كل مكان أدركوا فيه المسجد الحرام فقال : ( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ) أي : إن من دخل منهم المسجد الحرام يكون آمنا ، إلا أن يقاتل هو فيه وينتهك حرمته فلا أمان حينئذ . ولما كان القتل في المسجد الحرام أمرا عظيما يتحرج منه أكد الإذن فيه بشرطه ولم يكتف بما فهم من الغاية فقال : ( فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) ولا تستسلموا لهم ، فالبادئ هو الظالم ، والمدافع غير آثم [ ص: 170 ] ( كذلك جزاء الكافرين ) أي : إن من سنة الله تعالى أن يجازي الكافرين مثل هذا الجزاء ، فيعذبهم في مقابلة تعرضهم للعذاب بتعدي حدوده فيكونوا هم الظالمين لأنفسهم . وقرأ حمزة والكسائي : ( ( ولا تقتلوهم . . . . حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم ) ) من قتل الثلاثي ، ويخرج على أن قتل بعض الأمة كقتل جميعها لتكافلها . والمراد حتى لا يقتلوا أحدا منكم ، فإن قتلوا أحدا فاقتلوهم وهو أسلوب عربي بليغ . ثم قال :

                          ( فإن انتهوا ) عن القتال فكفوا عنهم ، أو عن الكفر فإن الله يقبل منهم ( فإن الله غفور رحيم ) يمحو عن العبد ما سلف ، إذا هو تاب عما اقترف ، ويرحمه فيما بقي ، إذا هو أحسن واتقى ( إن رحمة الله قريب من المحسنين ) ( 7 : 56 ) .

                          ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) عطف على ( قاتلوا ) في الآية الأولى ، فتلك بينت بداية القتال وهذه بينت غايته وهي ألا يوجد شيء من الفتنة في الدين ; ولهذا قال الأستاذ الإمام : أي حتى لا تكون لهم قوة يفتنونكم بها ويؤذونكم ; لأجل الدين ، ويمنعونكم من إظهاره أو الدعوة إليه ( ويكون الدين لله ) وفي آية سورة الأنفال : ( ويكون الدين كله لله ) ( 9 : 39 ) أي : يكون دين كل شخص خالصا لله لا أثر لخشية غيره فيه ، فلا يفتن لصده عنه ولا يؤذى فيه ، ولا يحتاج فيه إلى الدهان والمداراة ، أو الاستخفاء أو المحاباة ، وقد كانت مكة إلى هذا العهد قرار الشرك ، والكعبة مستودع الأصنام ، فالمشرك فيها حر في ضلالته ، والمؤمن مغلوب على هدايته ، قال : ( فإن انتهوا ) أي : في هذه المرة عما كانوا عليه ( فلا عدوان إلا على الظالمين ) أي : فلا عدوان عليهم ; لأن العدوان إنما يكون على الظالمين تأديبا لهم ليرجعوا عن ظلمهم ، في الكلام إيجاز بالحذف ، واستغناء عن المحذوف بالتعليل الدال عليه . ويجوز أن يكون المعنى : فإن انتهوا عما كانوا عليه من القتال والفتنة فلا عدوان بعد ذلك إلا على من كان منهم ظالما بارتكابه ما يوجب القصاص ; أي : فلا يحاربون عامة وإنما يؤخذ المجرم بجريمته ، ثم زاد تعليل الإذن بالقتال بيانا ببنائه على قاعدة عادلة معقولة فقال تعالى :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية