الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 589 ] بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأعلى

وهي مكية في قول الجمهور، وحكى النقاش عن الضحاك أنها مدنية، وذلك ضعيف، وإنما دعا إليه قول من قال: إنه ذكر صلاة العيد فيها.

قوله عز وجل:

سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا

"سبح" في هذه الآية بمعنى: نزه وقدس وقل: سبحانه عن النقائص والغير جميعا وما يقول المشركون، "والاسم" الذي هو: "ألف، سين، ميم" يأتي في مواضع من الكلام الفصيح يراد به المسمى، ويأتي في مواضع يراد به التسمية، نحو قوله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما" وغير ذلك، ومتى أريد به المسمى فإنما هو صلة كالزائد، كأنه تعالى قال في هذه الآية سبح ربك، أي نزهه، وإذا كان الاسم واحدا من الأسماء كزيد وعمرو فيجيء في الكلام على ما قلت، تقول: "زيد قائم" تريد المسمى، [ ص: 590 ] وتقول: "زيد ثلاثة أحرف" تريد به التسمية، وهذه الآية تحتمل هذا الوجه الأول، وتحتمل أن يراد بالاسم التسمية نفسها على معنى: نزه اسم ربك عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له: إله ورب ونحو ذلك.

و"الأعلى" يصح أن يكون صفة للاسم، ويصح أن يكون صفة للرب تعالى، وذكر الطبري أن ابن عمر وعليا رضي الله عنهما قرآ هذه السورة: "سبحان ربي الأعلى، الذي خلق فسوى" قال: وهي في مصحف أبي بن كعب كذلك، وهي قراءة أبي موسى الأشعري وابن الزبير ، ومالك بن دينار ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: "سبحان ربي الأعلى"، وكان ابن مسعود وابن عمر ، وابن الزبير يفعلون ذلك، ولما نزلت هذه السورة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم"، وقال قوم: معنى سبح اسم ربك : نزه اسم الله تعالى عن أن تذكره إلا وأنت خاشع، وقال ابن عباس : معنى الآية: صل باسم ربك الأعلى، كما تقول: ابدأ باسم الله تعالى وحذف حرف الجر.

و "سوى" معناه: عدل وأتقن حتى صارت الأمور مستوية دالة على قدرته ووحدانيته، وقرأ جمهور القراء: "قدر" بشد الدال، فيحتمل أن يكون من القدر والقضاء، ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء، وقرأ الكسائي وحده: "قدر" بتخفيف الدال، فيحتمل أن تكون من القدرة، ويحتمل أن تكون من التقدير والموازنة، وقوله تعالى: "فهدى" عام لجميع الهدايات في الإنسان والحيوان، وقد خصص بعض المفسرين أشياء من الهدايات، فقال الفراء : معناه: هدى وأضل، واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى، وقال مقاتل والكلبي : هدى الحيوان إلى وطء الذكور الإناث، وقيل: هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي، وقال مجاهد : هدى الناس إلى الخير والشر والبهائم للمراتع..

[ ص: 591 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وهذه الأقوال مثالات، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية. و"المرعى": النبات، وهو أصل في قوام العيش، إذ هو غذاء الأنعام، ومنه ما ينتفع به الناس في ذواتهم، و"الغثاء": ما يبس وجف وتحطم من النبات، وهو الذي يحمله السيل، وبه شبه الناس الذين لا قدر لهم، و"الأحوى" قيل: هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة، وقيل: هو الأسود سوادا يضرب إلى الخضرة، ومنه قول ذي الرمة :


لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثات وفي أنيابها شنب



وتقدير هذه الآية: أخرج المرعى أحوى، أي أسود من خضرته ونضارته، فجعله غثاء عند يبسه، فـ "أحوى" حال، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى: فجعله غثاء أحوى، أي أسود; لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتقبض فصار أحوى، فهذه صفة.

وقوله تعالى: سنقرئك فلا تنسى ، قال الحسن، وقتادة ، ومالك بن أنس : هذه الآية في معنى قوله تعالى: لا تحرك به لسانك الآية وعده الله تعالى أن يقرئه، وأخبره أنه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده تذكر فتذهب الآية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرك شفتيه مبادرة خوفا منه أن ينسى، وفي هذا التأويل آية للنبي صلى الله عليه وسلم في أنه أمي، وحفظ الله تعالى عليه الوحي وأمنه من نسيانه، وقال آخرون: ليست هذه الآية في معنى تلك، وإنما هذه وعد بإقراء الشرع والسور، وأمره بأن لا ينسى، على معنى التثبيت والتأكيد، وقد علم تعالى أن ترك النسيان ليس في قدرته، فهو نهي عن إغفال التعاهد، وأثبت الياء في "تنسى" لتعديل رؤوس الآي، وقال الجنيد: معنى "لا تنسى": لا تترك العمل بما تضمن من أمر ونهي.

[ ص: 592 ] وقوله تعالى: إلا ما شاء الله قال الحسن وقتادة وغيرهما: معناه: مما قضى الله سبحانه بنسخه وأن ترفع تلاوته وحكمه، وقال الفراء وجماعة من أهل المعاني: هو استثناء صلة في الكلام، على سنة الله تعالى في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح نسيانه، وقال ابن عباس : إلا ما شاء الله أن ينسيكه لتسن به، على نحو قوله صلى الله عليه وسلم "إني لأنسى، أو أنسى لأسن". وقال بعض المتأولين: إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه ثم يذكرك به بعد، ومن هذا قول النبي عليه الصلاة والسلام حين سمع قراءة عباد بن بشر : "رحمه الله تعالى، لقد أذكرني كذا وكذا في سورة كذا" .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

ونسيان النبي صلى الله عليه وسلم ممتنع فيما أمر بتبليغه، إذ هو معصوم، فإذا بلغه ووعى عنه فالنسيان جائز على أن يتذكر بعد ذلك، وعلى أن يسن، أو على النسخ.

ثم أخبره تعالى إنه يعلم الجهر من الأشياء وما يخفى منها، وذلك لإحاطته بكل شيء علما، وبهذا يصح الخبر بأنه لا ينسى شيئا إلا ذكره الله تعالى به. وقوله تعالى: "ونيسرك لليسرى" معناه: نذهب بك نحو الأمور المستحسنة في دنياك وأخراك، من النصر والظفر وعلو الرسالة والمنزلة يوم القيامة والرفعة في الجنة.

ثم أمره تعالى بالتذكير، واختلف الناس في معنى قوله تعالى: إن نفعت الذكرى فقال الفراء ، والزهراوي : معناه: وإن لم تنفع فاقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني، وقال بعض الحذاق: إنما قوله تعالى: إن نفعت الذكرى اعتراض بين الكلامين على جهة التوبيخ لقريش، أي: إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة، وهذا نحو قول الشاعر: [ ص: 593 ]


لقد أسمعت -لو ناديت حيا-     ولكن لا حياة لمن تنادي



وهذا كله كما تقول لرجل: قل لفلان وأعد له إن سمعك، إنما هو توبيخ للمشار إليه. ثم أخبر تعالى أنه سيذكر من يخشى الله والدار الآخرة، وهم العلماء والمؤمنون كل بقدر ما وفق، ويتجنب الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة فكفر، ووجب له صلي النار، وقال الحسن: "النار الكبرى" نار الآخرة، والصغرى نار الدنيا، وقال بعض المفسرين: إن نار جميع الآخرة وإن كانت شديدة فهي تتفاضل، ففيها شيء أكبر من شيء، وقال الفراء : الكبرى هي السفلى من أطباق النار.

وقوله تعالى: لا يموت فيها ولا يحيا معناه: لا يموت فيها موتا مريحا ولا يحيا حياة هنية، فهو لا محالة حي، وقد ورد في خبر إن العصاة في النار موتى.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وأراده على التشبيه لأنه كالسبات والركود والهمود، فجعله موتا.

التالي السابق


الخدمات العلمية