الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 274 ]

                                                                                                                                                                                                                                        سورة البلد

                                                                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                                                                        لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد أيحسب أن لن يقدر عليه أحد يقول أهلكت مالا لبدا أيحسب أن لم يره أحد ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى لا أقسم بهذا البلد ومعناه على أصح الوجوه : أقسم بهذا البلد ، وفي (البلد) قولان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : مكة ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : الحرم كله ، قاله مجاهد . وأنت حل بهذا البلد فيه ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدها : حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتال أو غيره ، قاله ابن عباس ومجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أنت محل في هذا البلد غير محرم في دخولك عام الفتح ، قاله الحسن وعطاء .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أن يستحل المشركون فيه حرمتك وحرمة من اتبعك توبيخا للمشركين . ويحتمل رابعا : وأنت حال أي نازل في هذا البلد ، لأنها نزلت عليه وهو بمكة [ ص: 275 ]

                                                                                                                                                                                                                                        لم يفرض عليه الإحرام ولم يؤذن له في القتال ، وكانت حرمة مكة فيها أعظم ، والقسم بها أفخم . ووالد وما ولد فيه أربعة أوجه . أحدها : آدم وما ولد ، قاله مجاهد وقتادة والحسن والضحاك .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن الوالد إبراهيم وما ولد ، قاله أبو عمران الجوني .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أن الوالد هو الذي يلد ، وما ولد هو العاقر الذي لا يلد ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : أن الوالد العاقر ، وما ولد التي تلد ، قاله عكرمة . ويحتمل خامسا : أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم ، لتقدم ذكره ، وما ولد أمته ، لقوله عليه السلام إنما أنا لكم مثل الوالد أعلمكم ، فأقسم به وبأمته بعد أن أقسم ببلده مبالغة في تشريفه . لقد خلقنا الإنسان في كبد إلى ها هنا انتهى القسم وهذا جوابه . وفي قوله في كبد سبعة أقاويل : أحدها : في انتصاب في بطن أمه وبعد ولادته ، خص الإنسان بذلك تشريفا ، ولم يخلق غيره من الحيوان منتصبا ، قاله ابن عباس وعكرمة .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 276 ]

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : في اعتدال ، لما بينه بعد من قوله ألم نجعل له عينين الآيات ، حكاه ابن شجرة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : يعني من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، يتكبد في الخلق مأخوذ من تكبد الدم وهو غلظه ، ومنه أخذ اسم الكبد لأنه دم قد غلظ ، وهو معنى قول مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : في شدة لأنها حملته كرها ووضعته كرها ، مأخوذ من المكابدة ، ومنه قول لبيد


                                                                                                                                                                                                                                        يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد .



                                                                                                                                                                                                                                        رواه ابن أبي نجيح .

                                                                                                                                                                                                                                        الخامس : لأنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        السادس : لأنه خلق آدم في كبد السماء ، قاله ابن زيد .

                                                                                                                                                                                                                                        السابع : لأنه يكابد الشكر على السراء والصبر على الضراء ، لأنه لا يخلو من أحدهما ، رواه ابن عمر . ويحتمل ثامنا : يريد به أنه ذو نفور وحمية ، مأخوذ من قولهم لفلان كبد ، إذا كان شديد النفور والحمية . وفيمن أريد بالإنسان ها هنا قولان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : جميع الناس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : الكافر يكابد شبهات . أيحسب أن لن يقدر عليه أحد فيه ثلاثة تأويلات : أحدها : أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه الله أن يبعثه بعد الموت ، قاله السدي .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد بأخذ ماله ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : أيحسب أن لن يذله أحد ، لأن القدرة عليه ذل له . يقول أهلكت مالا لبدا فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 277 ]

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : يعني كثيرا .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : مجتمعا بعضه على بعض ، ومنه سمي اللبد لاجتماعه وتلبيد بعضه على بعض . ويحتمل ثالثا : يعني مالا قديما ، لاشتقاقه من الأبد ، أو للمبالغة في قدمه من عهد لبد ، لأن العرب تضرب المثل في القدم بلبد ، وذكر قدمه لطول بقائه وشدة ضنه به . وقيل إن هذا القائل أبو الشد الجمحي ، أنفق مالا كثيرا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصد عن سبيل الله ، وقيل بل هو النضر بن الحارث . وهذا القول يحتمل وجهين :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أن يكون استطالة بما أنفق فيكون طغيانا منه .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن يكون أسفا عليه ، فيكون ندما منه . أيحسب أن لم يره أحد فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                        أحدهما : أن لم يره الله ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : أن لم يره أحد من الناس فيما أنفقه ، قاله ابن شجرة . ويحتمل وجها ثالثا : أيحسب إن لم يظهر ما فعله أن لا يؤاخذ به ، على وجه التهديد ، كما يقول الإنسان لمن ينكر عليه فعله ، قد رأيت ما صنعت ، تهديدا له فيكون الكلام على هذا الوجه وعيدا ، وعلى ما تقدم تكذيبا . وهديناه النجدين فيهما أربعة تأويلات : أحدها : سبيل الخير والشر ، قاله علي رضي الله عنه والحسن .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني : سبيل الهدى والضلالة ، قاله ابن عباس .

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث : سبيل الشقاء والسعادة ، قاله مجاهد .

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع : الثديين ليتغذى بهما ، قاله قتادة والربيع بن خثيم .

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 278 ]

                                                                                                                                                                                                                                        قال قطرب : والنجد هو الطريق المرتفع ، فأرض نجد هي المرتفعة ، وأرض تهامة هي المنخفضة . ويحتمل على هذا الاشتقاق خامسا : أنهما الجنة والنار ، لارتفاعهما عن الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية