الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          [ ص: 219 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما

                                                                                                                                                                                          كتاب الكتابة 1686 - مسألة : من كان له مملوك مسلم أو مسلمة فدعا أو دعت إلى الكتابة فرض على السيد الإجابة إلى ذلك ويجبره السلطان على ذلك بما يدرى أن المملوك العبد أو الأمة يطيقه مما لا حيف فيه على السيد ، لكن مما يكاتب عليه مثلهما - ولا يجوز كتابة عبد كافر أصلا . برهان ذلك قول الله تعالى { : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } . واختلف الناس في الخير . فقالت طائفة : المال ، وقالت طائفة : الدين . فنظرنا في ذلك فوجدنا موضوع كلام العرب الذي به نزل القرآن قال تعالى : { بلسان عربي مبين } أنه تعالى لو أراد المال لقال : إن علمتم لهم خيرا ، أو عندهم خيرا ، أو معهم خيرا ، لأن بهذه الحروف يضاف المال إلى من هو له في لغة العرب ، ولا يقال أصلا في فلان مال ، فلما قال تعالى : { إن علمتم فيهم خيرا } علمنا أنه تعالى لم يرد " المال " ، فصح أنه " الدين " ولا خير في دين الكافر - وكل مسلم على أديم الأرض فقد علمنا أن فيه الخير بقوله : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وأن لا دين إلا الإسلام ، وهذا أعظم ما يكون من الخير ، وكل خير بعد هذا فتابع لهذا - وهذا قول روي عن علي رضي الله عنه : أنه سأله عبد مسلم أأكاتب وليس لي مال ؟ فقال له علي : نعم ، فصح أن الخير عنده لم يكن " المال " .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 220 ] ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني في قول الله تعالى : { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } قال : إن أقاموا الصلاة . ومن طريق سفيان - هو الثوري - عن يونس عن الحسن [ في هذه الآية ] قال : { إن علمتم فيهم خيرا } قال : دين وأمانة . ومن طريق حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن في هذه الآية قال : الإسلام والوفاء - وجاء عن ابن عباس : أنه المال - وهو قول عطاء ، وطاوس ، ومجاهد ، وأبي رزين .

                                                                                                                                                                                          وقالت طائفة : كلا الأمرين - وهو قول سعيد بن أبي الحسن أخي الحسن البصري - وهو قول الشافعي ، إلا أنه ناقض في مسائله .

                                                                                                                                                                                          وأما الحنفيون ، والمالكيون : فكان شرط الله [ تعالى عندهم ] هاهنا ملغى ، لا معنى له ، فسبحان من جعل شرطه عندهم ضائعا ، وشروطهم الفاسدة عندهم لازمة ، وذلك أنهم يبيحون كتابة الكافر الذي لا مال له ، وهو بلا شك خارج عن الآية ; لأنه لا خير فيه أصلا ، وخارج عن قول كل من سلف ، وهذا مما فارقوا فيه من حفظ عنه قول من الصحابة رضي الله عنهم . ومن طرائف الدنيا : احتجاج بعضهم بأن قال : قسنا من لا خير فيه على من فيه خير . قال علي : فهل سمع بأسخف من هذا القياس ؟ وإنما قالوا بالقياس فيما يشبه المقيس عليه لا فيما لا يشبهه . وهلا قاسوا من يستطيع " الطول " في نكاح الأمة على من لا يستطيعه ؟ [ ص: 221 ] وهلا قاسوا به غير السائمة في الزكاة على السائمة ؟ وهلا قاسوا غير السارق على السارق ، وغير القاتل على القاتل ؟ وهذه حماقة لا نظير لها . وقال بعضهم : لم يذكر في الآية إلا من فيه خير ، وبقي حكم من لا خير فيه ، فأجزنا كتابته بالأخبار التي فيها ذكر الكتابة جملة ؟ فقلنا لهم : فأبيحوا بمثل هذا الدليل أكل كل مختلف فيه لقوله تعالى : { كلوا واشربوا } وهذا باطل بقوله عليه الصلاة والسلام { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } . ويلزمكم أن تجيزوا كتابة المجنون ، والصغير : بعموم تلك الأحاديث . وأيضا : فإنه لا يكون مكاتبا إلا من أباح الله تعالى مكاتبته أو أمر بها . وأيضا : فلم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أثر قط في المكاتب إلا وفيه بيان أنه مسلم - وأمر الله تعالى بالمكاتبة وبكل ما أمر به فرض لا يحل لأحد أن يقول له الله تعالى : افعل أمرا كذا ، فيقول هو : لا أفعل إلا أن يقول له تعالى : إن شئت فافعل وإلا فلا .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق إسماعيل بن إسحاق نا علي بن عبد الله نا غندر نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك : أن سيرين سأله المكاتبة ؟ فأبى عليه ، فقال له عمر بن الخطاب : والله لتكاتبنه ، وتناوله بالدرة ، فكاتبه . وبه إلى علي بن عبد الله نا روح بن عبادة نا ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه ؟ قال : ما أراه إلا واجبا ، قال ابن جريج : وقال لي أيضا عمرو بن دينار : قال ابن جريج : وأخبرني عطاء : أن موسى بن أنس بن مالك أخبره أن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك الكتابة ؟ وكان كثير المال فأبى ، فانطلق إلى عمر بن الخطاب فاستأذنه فقال عمر لأنس : كاتبه ؟ فأبى ، فضربه عمر بالدرة وقال : كاتبه ، ويتلو { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا } فكاتبه أنس . وبه إلى ابن المديني نا سعيد بن عامر نا جويرية بن أسماء عن مسلم بن أبي مريم عن عبد كان لعثمان بن عفان فذكر حديثا وفيه : أنه استعان بالزبير فدخل معه على [ ص: 222 ] عثمان ، فقام بين يديه قائما وقال : يا أمير المؤمنين فلان كاتبه ؟ فقطب ثم قال : نعم . ولولا أنه في كتاب الله تعالى ما فعلت ذلك

                                                                                                                                                                                          وذكر الخبر وروي عن مسروق والضحاك ، وقال إسحاق بن راهويه : مكاتبته واجبة إذا طلبها ، وأخشى أن يأثم إن لم يفعل ذلك ، ولا يجبره الحاكم على ذلك - وبإيجاب ذلك ، وجبر الحاكم عليه يقول أبو سليمان ، وأصحابنا . فهذا عمر ، وعثمان يريانها واجبة ، ويجبر عمر عليها ويضرب في الامتناع من ذلك ، والزبير يسمع حمل عثمان الآية على الوجوب فلا ينكر على ذلك ، وأنس بن مالك لما ذكر بالآية سارع إلى الرجوع إلى المكاتبة وترك امتناعه . فصح أنه لا يعرف في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم . وخالف ذلك الحنفيون ، والمالكيون ، والشافعيون ، فقالوا ليست واجبة ، وموهوا في ذلك بتشغيبات ، منها : أنهم ذكروا آيات من القرآن على الندب مثل { وإذا حللتم فاصطادوا } ، { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } .

                                                                                                                                                                                          وهذا لا حجة لهم فيه ; لأنه لولا نصوص أخر جاءت لكان هذان الأمران فرضا ، لكن لما حل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجه وعمرته ولم يصطد صار الأمر بذلك ندبا - ولما حض رسول الله صلى الله عليه وسلم على القعود في موضع الصلاة ورغب في ذلك كان الانتشار ندبا . فإن كان عندهم نص يبين أن الأمر بالكتابة ندب صرنا إليهم ؟ وإلا فقد كذب محرف القرآن عن موضع كلماته ، وليس إذا وجد أمر مخصوص أو منسوخ وجب أن يكون كل أمر في القرآن منسوخا أو مخصوصا . وقالوا : لما لم يختلفوا في أن له بيعه إذا طلب منه الكتابة علمنا أن الأمر بها ندب . قال أبو محمد : وهذا تمويه بارد ، نعم ، وله بيعه ، وإن كاتبه ما لم يؤد ، وله بيع ما قابل منه ما لم يؤد حتى يتم عتقه بالأداء . وهم يقولون فيمن نذر عتق عبده إن قدم أبوه : أن له بيعه ما لم يقدم أبوه - وفي ذلك بطلان نذره المفترض عليه الوفاء به لو لم أبعه . وقالوا : لم نجد في الأصول أن يجبر أحد على عقد فيما يملك ؟ [ ص: 223 ] فقلنا : فكان ماذا ؟ ولا وجدتم قط في الأصول أن يجبر أحد على الامتناع من بيع أمته ، وتخرج حرة من رأس ماله إن مات ، وقد قلتم بذلك في أم الولد .

                                                                                                                                                                                          ولا وجدتم قط صوم شهر مفرد إلا رمضان ، فأبطلوا صومه بذلك ؟ ولا فرق بين من قال : لا آخذ بشريعة - حتى أجد لها نظيرا ، وبين من قال : لا آخذ بها حتى أجد لها نظيرين .

                                                                                                                                                                                          وقد وجدنا : المفلس يجبر على بيع ماله في أداء ما عليه . ووجدنا : الشفيع يجبر المشتري على تصيير ملكه إليه . وقالوا : لو كان ذلك واجبا على السيد إذا طلبه العبد لوجب أيضا أن يكون واجبا على العبد إذا طلبه السيد - وهذا أسخف ما أتوا به ; لأن النص جاء بذلك إذا طلبها العبد ، ولم يأت بها إذا طلبها السيد ، فإن كان هذا عندهم قياسا صحيحا فليقولوا : إنه لما كان الزوج إذا أراد أن يطلق امرأته كان له أن يطلقها ، فكذلك أيضا للمرأة إذا أرادت طلاقه أن يكون لها أن تطلقه . ولما كان للشفيع أخذ الشقص وإن كره المشتري - كان للمشتري أيضا إلزامه إياه - وإن كره الشفيع . وهذه وساوس سخر الشيطان بهم فيها ، وشواذ سبب لهم مثل هذه المضاحك في الدين ، فاتبعوه عليها ، ولا ندري بأي نص أم بأي عقل وجب هذا الذي يهذرون به ؟ وقالوا : كان الأصل أن لا تجوز الكتابة ; لأنها عقد غرر ، وما كان هكذا فسبيله إذ جاء به نص - أن يكون ندبا ; لأنه إطلاق من حظر ؟ فقلنا : كذبتم بل الأصل لأنه لا يلزم شيء من الشريعة ، ولا يجوز القول به حتى يأمر الله تعالى به ، فإذا أمر به عز وجل فسبيله أن يكون فرضا ، يعصي من أبى قبوله ، هذا هو الحق الذي لا تختلف العقول فيه ، وما جاء قط نص ولا معقول بأن الأمر بعد التحريم لا يكون إلا ندبا ، بل قد كانت الصلاة إلى بيت المقدس فرضا ، وإلى الكعبة محظورة محرمة ، ثم جاء الأمر بالصلاة إلى الكعبة بعد الحظر ، فكان فرضا .

                                                                                                                                                                                          وقالوا : لو كانت الكتابة إذا طلبها العبد فرضا لوجب أن يجبر السيد عليها ، وإن أرادها العبد بدرهم . وهذا قول فاسد ; لأن الله تعالى لم يأمر قط بإجابة العبد إلى ما [ ص: 224 ] أراد أن يكاتب عليه ، وإنما أمر بإجابته إلى الكتابة ثم ترك المكاتبة مجملة بين السيد والعبد ; لأن قوله تعالى : { فكاتبوهم } فعل من فاعلين ، وقال تعالى { : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } فوجب أن لا يكلف العبد ما ليس في وسعه . ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ، فوجب أن لا يكلف السيد إضاعة ماله . وصح بهذين النصين : أن اللازم لهما ما أطاقه العبد بلا حرج ، وما لا غبن فيه على السيد ، ولا إضاعة لماله وقد وافقونا على أن للسيد تكليف عبده الخراج وإجباره عليه ، ولم يكن ذلك عندهم مجيزا أن يكلفه من ذلك ما لا يطيق ، ولا إجابة العبد إلى أداء ما لا يرضى السيد به مما هو قادر بلا مشقة على أكثر منه ، وهذا هو الحكم في الكتابة بعينه وكذلك من تزوج ولم يذكر صداقا ، فإنه يجبر على أداء صداق مثلها ، وتجبر على قبوله ، ولا تعطى برأيها ، ولا يعطي هو برأيه . وقد رأى الحنفيون الاستسعاء والقضاء به واجبا ، فهلا عارضوا أنفسهم بمثل هذه المعارضة فقالوا : إن قال العبد : لا أؤدي إلا درهما في ستين سنة ، وقال المستسعى له : لا تؤدي إلا مائة ألف دينار من يومه .

                                                                                                                                                                                          وقد أوجب المالكيون الخراج على الأرض المفتتحة فرضا لا يجوز غيره ، ثم لم يبينوا ما هو ولا مقداره . وكم قصة قال فيها الشافعيون بإيجاب فرض حيث لا يحدون مقداره ، كقولهم : الصلاة تبطل بالعمل الكثير ، ولا تبطل بالعمل اليسير ، فهذا فرض غير محدود . وأوجبوا المتعة فرضا ثم لم يحدوا فيها حدا ، ومثل هذا لهم كثير جدا فبطل كل ما موهوا به - وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية