الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 58 ] 325

ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلاثمائة

ذكر مسير الراضي بالله إلى حرب البريدي

في هذه السنة أشار محمد بن رائق على الراضي بالله بالانحدار معه إلى واسط ليقرب من الأهواز ، ويراسل أبا عبد الله بن البريدي ، فإن أجاب إلى ما يطلب منه ، وإلا قرب قصده عليه ، فأجاب الراضي إلى ذلك ، وانحدر أول المحرم ، فخالف الحجرية وقالوا : هذه حيلة علينا ليعمل بنا مثل ما عمل بالساجية ، فلم يلتفت ابن رائق إليهم ، وانحدر وتبعه بعضهم ، ثم انحدروا بعده ، فلما صاروا بواسط ، اعترضهم ابن رائق ، فأسقط أكثرهم ، فاضطربوا وثاروا ، فقاتلهم قتالا شديدا ، فانهزم الحجرية ، وقتل منهم جماعة .

ولما وصل المنهزمون إلى بغداذ ، ركب لؤلؤ صاحب الشرطة ببغداذ ولقيهم ، فأوقع بهم فاستتروا ، فنهبت دورهم ، وقبضت أموالهم وأملاكهم ، وقطعت أرزاقهم .

فلما فرغ منهم ابن رائق ، قتل من كان اعتقله من الساجية سوى صافي الخازن ، وهارون بن موسى ، فلما فرغ ، أخرج مضاربه ومضارب الراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريدي عنها ، فأرسل إليهم في معنى تأخير الأموال ، وما قد ارتكبه من الاستبداد بها وإفساد الجيوش وتزيين العصيان لهم ، إلى غير ذلك من ذكر معايبه ، ثم يقول بعد ذلك : وإنه إن حمل الواجب عليه وسلم الجند الذين أفسدهم أقر على عمله ، وإن أبى قوبل بما استحقه .

فلما سمع الرسالة جدد ضمان الأهواز ، كل سنة بثلاثمائة وستين ألف دينار ، يحمل كل شهر بقسطه ، وأجاب إلى تسليم الجيش إلى أن يؤمر بتسليمه إليه ممن يسير بهم [ ص: 59 ] إلى قتال ابن بويه ، إذ كانوا كارهين للعود إلى بغداذ لضيق الأموال بها واختلاف الكلمة ، فكتب الرسل ذلك إلى ابن رائق ، فعرضه على الراضي ، وشاور فيه أصحابه ، فأشار الحسين بن علي النوبختي بأن لا يقبل منه ذلك ، فإنه خداع ومكر للقرب منه ، ومتى عدتم عنه لم يقف على ما بذله .

وأشار أبو بكر بن مقاتل بإجابته إلى ما التمس من الضمان ، وقال : إنه لا يقوم غيره مقامه ، وكان يتعصب للبريدي ، فسمع قوله وعقد الضمان على البريدي ، وعاد هو والراضي إلى بغداذ ، فدخلاها ثامن صفر .

فأما المال فما حمل منه دينارا واحدا ، وأما الجيش فإن ابن رائق أنفذ جعفر بن ورقاء ليتسلمه منه وليسير إلى فارس ، فلما وصل إلى الأهواز لقيه ابن البريدي في الجيش جميعه ، ولما عاد سار الجيش مع البريدي إلى داره واستصحب معه جعفرا وقدم لهم طعاما كثيرا ، فأكلوا وانصرفوا ، وأقام جعفر عدة أيام .

ثم إن جعفرا أمر الجيش فطالبوه بمال يفرقه فيهم ليتجهزوا به إلى فارس ، فلم يكن معه شيء ، فشتموه وتهددوه بالقتل ، فاستتر منهم ولجأ إلى البريدي ، وقال ( له البريدي ) : ليس العجب ممن أرسلك ، وإنما العجب منك كيف جئت بغير شيء ، فلو أن الجيش مماليك لما ساروا إلا بمال ترضيهم به ، ثم أخرجه ليلا ، وقال : انج بنفسك ، فسار إلى بغداذ خائبا .

ثم إن ابن مقاتل شرع مع ابن رائق في عزل الحسين بن علي النوبختي وزيره ، وأشار عليه بالاعتضاد بالبريدي ، وأن يجعله وزيرا له عوض النوبختي ، وبذل له ثلاثين ألف دينار ، فلم يجبه إلى ذلك ، فلم يزل ابن مقاتل يسعى ويجتهد إلى أن أجابه إليه ، فكان من أعظم الأسباب في بلوغ ابن مقاتل غرضه أن النوبختي كان مريضا ، فلما تحدث ابن مقاتل مع ابن رائق في عزله امتنع من ذلك ، وقال : له علي حق كثير ، هو الذي سعى لي حتى بلغت هذه الرتبة ، فلا أبتغي به بديلا .

فقال ابن مقاتل : فإن النوبختي مريض لا مطمع في عافيته .

قال له ابن رائق : فإن الطبيب قد أعلمني أنه قد صلح وأكل الدراج .

[ ص: 60 ] فقال : إن الطبيب يعلم منزلته منك ، وأنه وزير الدولة ، فلا يلقاك في أمره بما تكره ، ولكن أحضر ابن أخي النوبختي وصهره علي بن أحمد ، واسأله عنه سرا ، فهو يخبرك بحاله . فقال : أفعل .

وكان النوبختي قد استناب ابن أخيه هذا عند ابن رائق ليقوم بخدمته في مرضه ، ثم إن ابن مقاتل فارق ابن رائق على هذا ، واجتمع بعلي بن أحمد وقال له : قد قررت لك مع الأمير ابن رائق الوزارة ، فإذا سألك عن عمك ، فأعلمه أنه على الموت ولا يجيء منه شيء لتتم لك الوزارة .

فلما اجتمع ابن رائق بعلي بن أحمد سأله عن عمه ، فغشي عليه ، ثم لطم برأسه ووجهه ، وقال : يبقي الله الأمير ويعظم أجره فيه ، فلا يعده الأمير إلا في الأموات ، فاسترجع وحوقل ، وقال : لو فدي بجميع ما أملكه لفعلت .

فلما حضر عنده ابن مقاتل ، قال له ابن رائق : قد كان الحق معك ، وقد يئسنا من النوبختي ، فاكتب إلى البريدي ليرسل من ينوب عنه في وزارتي ، ففعل وكتب إلى البريدي ( بإنفاذ أحمد بن علي ) الكوفي لينوب عنه في وزارة ابن رائق ، فأنفذه ، فاستولى على الأمور ، وتمشى حال البريدي بذلك ، فإن النوبختي كان عارفا به لا يتمشى معه محاله .

فلما استولى الكوفي وابن مقاتل ، شرعا في تضمين البصرة من أبي يوسف بن البريدي أخي عبد الله ، فامتنع ابن رائق من ذلك ، فخدعاه إلى أن أجاب إليه ، وكان نائب ابن رائق بالبصرة محمد بن يزداد ، وقد أساء السيرة وظلم أهلها ، ( فلما ضمنها البريدي ، حضر عنده بالأهواز جماعة من أعيان أهلها ) فوعدهم ومناهم ، وذم ابن رائق عندهم بما كان يفعله ابن يزداد ، فدعوا له .

[ ص: 61 ] ثم أنفذ البريدي غلامه إقبالا في ألفي رجل ، وأمرهم بالمقام بحصن مهدي إلى أن يأمرهم بما يفعلون ، فلما علم ابن يزداد بهم ، قامت قيامته من ذلك ، وعلم أن البريدي يريد التغلب على البصرة ، وإلا لو كان يريد التصرف في ضمانه ، لكان يكفيه عامل في جماعته .

وأمر البريدي بإسقاط بعض ما كان ابن يزداد يأخذه من أهل البصرة ، حتى اطمأنوا ، وقاتلوا معه عسكر ابن رائق ، ثم عطف عليهم ، فعمل بهم أعمالا تمنوا [ معها ] أيام ابن رائق وعدوها أعيادا .

التالي السابق


الخدمات العلمية