الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

ونحن نقول قولا كليا نشهد الله تعالى عليه وملائكته أنه ليس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يخالف القرآن ولا ما يخالف العقل الصريح ، بل كلامه بين للقرآن وتفسير له وتفصيل لما أجمله ، وكل حديث من رد الحديث لزعمه أنه يخالف القرآن فهو موافق للقرآن مطابق له ، وغايته أن يكون زائدا على ما في القرآن ، وهذا الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبوله ونهى عن رده بقوله : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول : لا أدري ، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه " ، فهذا الذي وقع من [ ص: 613 ] وضع قاعدة باطلة له لرد الأحاديث بها بقولهم في كل حديث زائد على ما في القرآن : هذا زيادة على النص ، فيكون نسخا ، والقرآن لا ينسخ بالسنة ، فهذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ونهاهم عنه ، وأخبرهم أن الله تعالى أوحى إليه الكتاب ومثله معه ، فمن رد السنة الصحيحة بغير سنة تكون مقاومة لها متأخرة عنها ناسخة لها ، فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد وحي الله .

قال الشافعي : إن الله تعالى وضع نبيه صلى الله عليه وسلم من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه الفرض على خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقول إلا بما أنزل إليه ، وأنه لا يخالف كتاب الله ، وأنه بين عن الله تعالى ما أراد الله ، قال : وبيان ذلك في كتاب الله ، قال الله تعالى : وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا إلى قوله : إن أتبع إلا ما يوحى إلي ومثل هذا في غير آية ، أخبرنا الداروردي عن عمرو عن المطلب بن حنطب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله عنه إلا وقد نهيتكم عنه " .

قال الشافعي : فرض الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما أوحي إليه وقال : لا ينكر الناس علي بشيء ، فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله ، ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله ، وكذلك صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك أمر أن يتبع ما أوحي اتباع سنته فيه ، فمن قبل منه فإنما قبل بفرض الله ، قال الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما .

وقال الإمام أحمد : من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفى هلكة ، وقال تعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية ، وأي فتنة إنما هي الكفر .

وقال الشافعي : قال الله تعالى : أيحسب الإنسان أن يترك سدى فلم [ ص: 614 ] يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدى : هو الذي لا يؤمر ولا ينهى ومن أفتى أو حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معنى السدى ( قال ) : وقد جعل الله الحق في كتابه ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فليست تنزل بأحد نازلة إلا والكتاب يدل عليها نصا أو جملة ، ثم ذكر بعض ما حرم الله تفصيلا ( قال ) : والجملة ما فرض الله من صلاة وزكاة وحج ، فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف الصلاة وعددها ووقتها والعمل فيها ، وكيف الزكاة وفي أي المال وفي أي وقت هي وكم قدرها وكيف الحج والعمل فيه وما يدخل به فيه ويخرج به منه .

وقد صنف الإمام أحمد كتابا سماه كتاب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم رد فيه على من احتج بظاهر القرآن وترك ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم ودل على معناه ، رواه عنه ابنه صالح ، قال في أوله : إن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وأنزل عليه كتابا هاديا له ولمن تبعه ، وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه ، وخاصه وعامه وناسخه ومنسوخه ، وما قصد به الكتاب ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المعبر عن كتاب الله الدال على معانيه وشاهده في ذلك أصحابه ، ونقلوا ذلك عنه ، وكانوا هم المعبرين عن ذلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال جابر بن عبد الله : ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ، عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله ، وما عمل به من شيء علمنا .

وقال قوم : بل نستعمل الظاهر ، وتركوا الاستدلال برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبلوا أخبار أصحابه ، وقال ابن عباس للخوارج : أتيتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ومن عند ابن عم رسول الله وصهره وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس فيكم منهم أحد ، ثم ساق النصوص الموجبة لمتابعة الرسول ، ثم ذكر الآيات التي فسرت السنة مجملها .

والمقصود أن أئمة الإسلام جميعهم على هذه الطريقة ، الأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح ، ولم يأت بعده حديث آخر بنسخه ، سواء عرفوا من عمل به أم لا ، وسواء عمل الناس بخلافه أو بوفاقه ، فلا يتركون الحديث لعمل أحد ، لا يتوقفون في قبوله على عمل أحد ، ولا يعارضونه بالقرآن ولا بالإجماع ويعلمون أن هذه المعارضة من أبطل الباطل .

التالي السابق


الخدمات العلمية