الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2238 ) مسألة : قال : ( فمن فرط فيه حتى توفي ، أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة ) وجملة ذلك أن من وجب عليه الحج ، وأمكنه فعله ، وجب عليه على الفور ، ولم يجز له تأخيره . وبهذا قال أبو حنيفة ، ومالك .

                                                                                                                                            وقال الشافعي : يجب الحج وجوبا موسعا ، وله تأخيره ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر على الحج ، وتخلف بالمدينة ، لا محاربا ، ولا مشغولا بشيء ، وتخلف أكثر الناس قادرين على الحج ، ولأنه إذا أخره ثم فعله في السنة الأخرى لم يكن قاضيا له ، دل على أن وجوبه على التراخي .

                                                                                                                                            ولنا ، قول الله تعالى : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } . وقوله : { وأتموا الحج والعمرة لله } . والأمر على الفور . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أراد الحج فليتعجل } . رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه . وفي رواية أحمد ، وابن ماجه : { فإنه قد يمرض المريض ، وتضل الضالة ، وتعرض الحاجة } . قال أحمد : ورواه الثوري ، ووكيع ، عن أبي إسرائيل ، عن فضيل بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أخيه الفضل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ، ولم يحج ، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا } . قال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وفي إسناده مقال . وروى سعيد بن منصور ، بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من مات ، ولم يحج حجة الإسلام ، لم يمنعه مرض حابس ، أو سلطان جائر ، أو حاجة ظاهرة ، فليمت على أي حال شاء ، يهوديا ، أو نصرانيا } . وعن عمر نحوه من قوله .

                                                                                                                                            وكذلك عن ابن عمر ، وابن عباس رضي الله عنهم . ولأنه أحد أركان الإسلام ، فكان واجبا على الفور ، كالصيام . ولأن وجوبه بصفة التوسع يخرجه عن رتبة الواجبات ، لأنه يؤخر إلى غير غاية ولا يأثم بالموت قبل فعله ، لكونه فعل ما يجوز له فعله ، وليس على الموت أمارة يقدر بعدها على فعله . فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنما فتح مكة سنة ثمان ، وإنما أخره سنة تسع ، فيحتمل أنه كان له عذر ، من عدم الاستطاعة ، أو كره رؤية المشركين عراة حول البيت ، فأخر الحج حتى بعث أبا بكر ينادي : أن { لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان } .

                                                                                                                                            ويحتمل أنه أخره بأمر الله تعالى لتكون حجته حجة الوداع في السنة التي استدار فيها الزمان كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ويصادف وقفة الجمعة ، ويكمل الله دينه . ويقال : إنه اجتمع يومئذ أعياد أهل كل دين ، ولم يجتمع قبله ولا بعده . فأما تسمية فعل الحج قضاء ، فإنه يسمى [ ص: 101 ] بذلك ، قال الله تعالى : { ثم ليقضوا تفثهم } ، وعلى أنه لا يلزم من الوجوب على الفور تسمية القضاء ; فإن الزكاة تجب على الفور ، ولو أخرها لا تسمى قضاء ، والقضاء الواجب على الفور إذا أخره لا يسمى قضاء القضاء ، ولو غلب على ظنه في الحج أنه لا يعيش إلى سنة أخرى ، لم يجز له تأخيره ، فلو أخره لا يسمى قضاء .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا عدنا إلى شرح مسألة الكتاب ، فنقول : متى توفي من وجب عليه الحج ولم يحج ، وجب أن يخرج عنه من جميع ماله ما يحج به عنه ويعتمر ، سواء فاته بتفريط أو بغير تفريط . وبهذا قال الحسن ، وطاوس ، والشافعي .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، ومالك : يسقط ; بالموت ; فإن وصى بها فهي من الثلث . وبهذا قال الشعبي ، والنخعي لأنه عبادة بدنية فتسقط بالموت ، كالصلاة .

                                                                                                                                            ولنا ، ما روى ابن عباس ، { أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيها ، مات ولم يحج ؟ قال : حجي عن أبيك } وعنه ، { أن امرأة نذرت أن تحج ، فماتت ، فأتى أخوها النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ؟ فقال : أرأيت لو كان على أختك دين ، أما كنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : فاقضوا دين الله ، فهو أحق بالقضاء } . رواهما النسائي . وروى هذا أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . ولأنه حق استقر عليه تدخله النيابة ، فلم يسقط بالموت كالدين . ويخرج عليه الصلاة ، فإنها لا تدخلها النيابة ، والعمرة كالحج في القضاء ، فإنها واجبة ، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا رزين أن يحج عن أبيه ويعتمر ، ويكون ما يحج به ويعتمر من جميع ماله ; لأنه دين مستقر ، فكان من جميع المال ، كدين الآدمي .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية