الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          المؤمنون

                                                          قال الله تعالى:

                                                          والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنـزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نـزل إليهم ولعلهم يتفكرون

                                                          [ ص: 4181 ]

                                                          والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون

                                                          الهجرة ترك الدار لغاية سامية أو لطلب الرزق، وقد حبب الله تعالى في هاتين الحالتين، فقال تعالى: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة

                                                          وقد كانت هجرتان: هجرة إلى الحبشة فرارا بالدين من الذين ظلموا، ومن هؤلاء عثمان بن عفان، وجعفر بن أبي طالب، وعدد من الصديقين والصديقات بلغت عدتهم ثمانين أو يزيد، والهجرة الكبرى إلى المدينة وفيها هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن هذه السورة مكية، أي أنها كانت قبل الهجرة الكبرى، فالذين هاجروا في الآية هم المهاجرون إلى الحبشة.

                                                          وقوله تعالى: والذين هاجروا في الله الفاء هنا للسببية، أي لأجل الله تعالى، وذكر الفاء يومئ إلى أنهم فنوا في الله فصاروا لا يفكرون في غيره، وصار هو ملء قلوبهم ونفوسهم وعقولهم، وأحاسيسهم فكلهم له سبحانه وتعالى لا يفكرون إلا فيه، ويهون كل عذاب في سبيله.

                                                          وقال سبحانه وتعالى: من بعد ما ظلموا و (ما) هنا مصدرية، أي: من بعد ظلمهم، وقد كتب الله تعالى لهم الجزاء الحسن لصبرهم على الأذى، ونزول الظلم بهم، وهجرتهم ببعدهم عن الخلان والأحباب، والديار والأموال، وبيع أنفسهم لله تعالى حتى لا يطلبوا إلا مرضاته.

                                                          وقد قال تعالى في جزائهم: لنبوئنهم في الدنيا حسنة (اللام) لام القسم وهي مؤكدة، والقسم مؤكد، ونون التوكيد مؤكدة، والحسنة الأمر الذي يكون حسنا لا إساءة فيه في ذاته ولا في مغبته، و (نبوئنهم) نمكنهم في الحسنة كأنهم يفتقدونها ويستمكنون منها، والحسنة في الدنيا التي نالت المؤمنين والمهاجرين من بعد هي العيش الحسن، وقد نزلوا من بعد الحبشة المدينة هم ومن كانوا في مكة يلاقون الظلم والإيذاء بكل أنواعه والاستهزاء والسخرية، فالتقوا في دار الهجرة.

                                                          [ ص: 4182 ] ومن حسنة الدنيا النصر على الشرك وأهله، وغنائم النصر، والتعاون والإخاء، وإقامة حياة فاضلة في المدينة.

                                                          هذه حسنة الدنيا ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون (اللام) لام الابتداء للتوكيد، وأجر الآخرة أكبر؛ لأنه نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فأكل الجنة دائم لا ينتهي، وقال: لو كانوا يعلمون والضمير في (يعلمون) يعود إلى المؤمنين، و(لو) تكون للتمني، أي: ليتهم يعلمون ذلك علم العيان والرؤية، لا علم الخبر والذكر، وفي ذلك بيان لفضله، وعظم شأنه، كأنه فوق الخيال والتصور، واختار الزمخشري أن يكون للكفار ولكنه بعيد،

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية