الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم )

                          قال السيوطي في أسباب النزول : روى أحمد من حديث أبي هريرة قال : قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهما فأنزل الله : ( يسألونك عن الخمر والميسر ) الآية ، فقال الناس : ما حرم علينا إنما قال : ( إثم كبير ) وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوم من الأيام صلى رجل من المهاجرين أم أصحابه في المغرب فخلط في قراءته ، فأنزل الله آية أغلظ منها ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ( 4 : 43 ) الآية ، ثم نزلت آية أغلظ من ذلك [ ص: 256 ] ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ) - إلى قوله : ( فهل أنتم منتهون ) ( 5 : 90 - 91 ) قالوا : انتهينا ربنا . وقال ( الجلال ) في تفسير آية البقرة : إنها لما نزلت شربها قوم وامتنع آخرون حتى نزلت آية المائدة . وهو مخالف للإطلاق الذي نقلناه آنفا عن كتاب أسباب النزول له . وروى أحمد وأبو داود والترمذي - وصححه - والنسائي وغيرهم عن عمر أنه قال : ( ( اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فإنها تذهب بالمال والعقل ) ) فنزلت هذه الآية ، فدعي عمر فقرئت عليه فقال : ( ( اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ) ) فنزلت الآية التي في سورة النساء ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) فكان ينادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة : ( ( أن لا يقربن الصلاة سكران ) ) فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : ( ( اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا ) ) فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه . فلما بلغ ( فهل أنتم منتهون ) قال عمر : ( ( انتهينا انتهينا ) ) . ولا يتوقف فهم معنى الآيات على شيء من هذه الروايات ، ويظهر من مجموعها أن القطع بتحريم الخمر والنهي عنها كان بعد تمهيد بالذم والنهي عن السكر في حال قرب الصلاة ، وأوقات الصلوات متقاربة فمن ينهى عن قرب الصلاة وهو سكران ، فلا بد أن يتجنب السكر في أكثر الأوقات لئلا تحضره الصلاة وهو سكران ، وهو الذي تدل عليه الجملة الحالية ( وأنتم سكارى ) التي قيد بها النهي كما سنبينه في تفسير الآية من سورة النساء ، وفي هذا من الحكمة في التدرج بالتكليف ما لا يخفى . قال القفال : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم كانوا قد ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بها كثيرا ، فعلم الله أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فلا جرم أن استعمل في التحريم هذا التدريج وهذا الرفق . والذي كان يتبادر - لولا الروايات - أن آية سورة النساء هي التي نزلت أولا ، فكانوا يمتنعون عن الشرب في أكثر الأوقات لئلا تفوتهم الصلاة ، وأما آية المائدة فلا شك أنها آخر ما نزل; لأنها أكدت النهي ، وبينت علة التحريم بالتعيين ، على أن السورة برمتها من آخر السور نزولا .

                          وقد ذهب بعض الأئمة إلى أن الخمر حرمت بهذه الآية ، وأن ما أتى بعدها فهو من قبيل التوكيد; لأن لفظ الإثم يفيد المحرم . قال تعالى : ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ) ( 7 : 33 ) ولكن ذهب الجمهور إلى أن التحريم كان تدريجيا كما تقدم ، ووجهه الأستاذ الإمام بأنه المنقول والمعهود في حكمة التشريع ، وقال : إن الإثم هو الضرر ، فتحريم كل ضار لا يقتضي تحريم ما فيه مضرة من جهة ومنفعة من جهة [ ص: 257 ] أخرى; لذلك كانت هذه الآية موضعا لاجتهاد الصحابة فترك لها الخمر بعضهم وأصر على شربها آخرون ، كأنهم رأوا أنه يتيسر لهم أن ينتفعوا بها مع اجتناب ضررها ، فكان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها ، ولو فوجئوا بالتحريم مع ولوع الكثيرين بها واعتقادهم منفعتها لخشي أن يخالفوا أو يستثقلوا التكليف ، فكان من حكم الله أن رباهم على الاقتناع بأسرار التشريع وفوائده ليأخذه بقوة وعقل .

                          لفظ الخمر منقول من مصدر خمر الشيء بمعنى ستره وغطاه ، يقال : خمرت الشيء إذا سترته وخمرت الجارية ألبستها الخمار ، وهو النصيف الذي تغطي به وجهها ، وتخمرت هي واختمرت . والوجه في النقل أن هذا الشراب يستر العقل ويغطيه ، أو هو من خامره بمعنى خالطه ، يقال : خامره الداء; أي : خالطه ، وهو ما صرح به عمر في خطبة له على منبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو بمعنى التغير ، يقال : خمر الشيء - كعلم - إذا تغير عما كان عليه ، والعصير يتغير فيكون خمرا ، أو بمعنى الإدراك ، من خمر العجين ونحوه فاختمر; أي : بلغ وقت إدراكه . وقال ابن الأعرابي : إنه يقال سميت الخمر خمرا; لأنها تركت حتى اختمرت ، واختمارها تغير رائحتها ، وجميع هذه المعاني ظاهرة في هذه الأشربة المسكرة كلها كما قال ابن عبد البر ، فيصح إطلاق اسم الخمر لغة على كل مسكر ، وهذا ما ذهب إليه أشهر علماء اللغة كالجوهري وأبي نصر القشيري وأبي حنيفة الدينوري والمجد صاحب القاموس . والظاهر أن هذا الإطلاق حقيقي ولا وجه للعدول عنه إلا أن يصح أن العرب كانت تسمي نوعا خاصا من المسكرات خمرا لا تطلق اللفظ على مسكر سواه ، وهو ما زعمه بعض الناس ، والحنفية على أن الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وقذف بالزبد ، زاد بعضهم ثم سكن ، وقيل إذا اشتد فقط . ويرده أن الصحابة - وهم صميم العرب - فهموا من تحريم الخمر تحريم كل مسكر ولم يفرقوا بين ما كان من العنب وما كان من غيره; بل قال أهل الأثر : إن الخمر حرمت بالمدينة ولم يكن شرابهم يومئذ إلا نبيذ البسر والتمر ، فهو الذي تناوله نص القرآن ابتداء . وأخرج أبو داود : ( ( نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة : من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة ، والخمر ما خامر العقل ) ) وكأن هذا كل ما يعرف ، ولا شك أن غيره مثله ، والأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك ، ومنها حديث الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي : ( ( كل مسكر خمر ) ) وروي بزيادة : ( ( وكل خمر حرام ) ) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء يجلدون كل من سكر ، ويعبرون عن ذلك بحد الخمر أو عقوبته ، يقول المخصصون : إن ما ورد في الحديث اصطلاح شرعي لا لغوي ، ونقول : إن الذي أنزل عليه الذكر ليبين للناس ما نزل عليهم قد بين لهم أن الخمر التي نهى الله عنها في كتابه هي كل مسكر ، فلا فرق في حكمها بين [ ص: 258 ] مسكر وآخر ، وهذا البيان قطعي متواتر لأن العمل عليه ، وفي حديث أبي داود وغيره ( ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) ) .

                          وأما الميسر فهو القمار ، واشتقاقه من يسر إذا وجب ، أو من اليسر بمعنى السهولة; لأنه كسب بلا مشقة ولا كد ، أو من اليسار وهو الغنى; لأنه سببه للرابح . أو من اليسر بمعنى التجزئة والاقتسام ، يقال : يسروا الشيء إذا اقتسموه ، قال الأزهري : الميسر الجزور - الجمل - كانوا يتقامرون عليه ، سمي ميسرا; لأنه يجزأ أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، وكل شيء جزأته فقد يسرته ، والياسر الجازر أي : لأنه يجزئ لحم الجزور ، ثم صار يقال للمتقامرين جازرون; لأنهم سبب الجزر والتجزئة ، هذا هو الأصل .

                          وأما كيفيته عند العرب فهي أنه كان لهم عشرة قداح ( جمع قدح بالكسر ) وتسمى الأزلام والأقلام ، وهي الفذ ، والتوءم ، والرقيب ، والحلس ( ككتف ) والمسبل ، والمعلى ، والنافس ، والمنيح ، والسفيح ، والوغد ، لكل واحد من السبعة الأولى نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها عشرة أجزاء أو ثمانية وعشرين جزءا ، وليس للثلاثة الأخيرة شيء ، فللفذ سهم ، وللتوءم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة وهو أعلاها; ولذلك يضرب به المثل لمن كان أكبر حظا أو نجاحا من غيره في كل شيء مفيد له ، فيقال : صاحب القدح المعلى ، وكانوا يجعلون هذه الأزلام في الربابة، وهي الخريطة ، ويضعونها على يد عدل يجلجلها ويدخل يده فيخرج منها واحدا باسم رجل ، ثم واحدا باسم رجل إلخ ، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئا ، وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ، ويسمونه البرم - بالتحريك - وهو في الأصل ثمر العضاه لا ينتفع به ، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال :

                          كل سهام الياسرين عشرة فأودعوها صحفا منشرة لها فروض ولها نصيب الفذ والتوءم والرقيب والحلس يتلوهن ثم النافس وبعده مسبلهن السادس ثم المعلى كاسمه المعلى صاحبه في الياسرين الأعلى والوغد والسفيح والمنيح غفل فما فيها يرى ربيح

                          [ ص: 259 ] وقد اختلفوا : هل الميسر ذلك النوع من القمار بعينه، أم يطلق على كل مقامرة ؟ ولكن لا خلاف بين الفقهاء في أن كل قمار محرم إلا ما أباح الشرع من الرهان في السباق والرماية ترغيبا فيهما للاستعداد للجهاد ، وليس منها سباق الخيل المعروف في عصرنا; فإنه من شر القمار الذي ترجع جميع أنواعه إلى كونها من أكل أموال الناس بالباطل .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية